بعد فترة من الهيمنة الأمريكية على الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، بات من المتفق عليه الآن أن لحظة أحادية القطب للولايات المتحدة -كما وصفها ستيفن والت، في مجلة فورين بوليسي - قد أفسحت المجال أمام بيئة سياسية دولية أكثر تعددًا.
وبالنظر إلى ما يمثله هذا التحول من تحد مباشر لمفهوم أنها القوة العظمى الرئيسية في العالم، فقد أوضح روبرت مانينغ، و ماثيو بوروز، من مركز ستيمسون، أن سياستها الخارجية قاومت فكرة التعددية القطبية منذ فترة طويلة، بدليل زيادة منافستها الدولية مع الصين خلال العقدين الماضيين، باعتبارها تمثل لها انعكاسًا لمواجهتها مع الاتحاد السوفيتي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
ومع ذلك، فإن ما طرأ من تغييرات على النظام الجيوسياسي العالمي، لا يقتصر على المنافسة بين القوى العظمى. ومكن بروز نظام متعدد الأقطاب، قوى صاعدة أخرى من تعزيز وضعها واستقلاليتها في الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية الدولية. وفي حين أن هذا التحول له آثار على السياسة الخارجية الأمريكية، ومع ظهور حرب أوكرانيا الآن على أنها مسرح للمنافسة والمصالح الخارجية على سبيل المثال؛ رأى والت، أنه يجب على واشنطن، ألا تهتم بشكل كبير، بعودة العالم إلى نظام سياسي متعدد الأقطاب على أساس أنها ستكون في وضع مثالي في إطار المنافسة بين القوى الكبرى الأخرى، ومن ثم البقاء في موقف دولي قوي تجاه منافسيها.
وفي واقع الأمر، فإن الاعتقاد بتحول العالم إلى نظام متعدد الأقطاب ليس ظاهرة جديدة. ووثق والت، أنه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، واحتلال الولايات المتحدة مشهد أحادي القطب؛ بدأ عديد من الخبراء والقادة الدوليين في التنبؤ، بل وحتى الرغبة في وضع حد لهذا الوضع. ويبرز الآن جوزيب بوريل، رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كأحد الشخصيات التي تفضل استخدام مصطلح تعددية الأقطاب المعقدة، في تفسيرات علاقات أوروبا مع بقية العالم.
واستيضاحًا لهذا التحول في النظام، كتب مانينغ، وبوروز، أن النظام السياسي العالمي الراسخ في طور الانهيار، وسط تحول تاريخي، لكنه لا يزال غير مؤكد. ومن وجهة نظرهما، فإن صعود القوة الأمريكية خلال القرن ونصف الماضي بلغ ذروته بشكل أساسي، والآن بعد أن انتشرت الثروة، والقوة في جميع أنحاء العالم، فإن بلدان أخرى ممن تقع خارج هيكل التحالف الغربي، أضحت أكثر قوة وتأثيرًا على المستوى الدولي. ومن خلال تسليط الضوء على أوجه التشابه مع تراجع الإمبراطورية البريطانية -حيث استفادت الدول الأخرى من العولمة المدعمة التي تقودها الولايات المتحدة لمصلحتها الخاصة- فقد رأى الخبراء أنه في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تبدو واشنطن، نفسها غافلة عن المعضلات الناشئة عن تفوقها السابق على الصعيد العالمي.
وبدت المنافسة الأمريكية مع القوى العظمى بشكل كبير في التحليلات الغربية للتحولات في الجغرافيا السياسية. وكما أوضح مانينغ، و بوروز، فإنه من المستحيل قراءة أحدث استراتيجية للأمن القومي للولايات المتحدة، والتي أدرجت الصين، كأولوية عالمية للسياسة الخارجية والدفاعية؛ من دون تروي واشنطن، وتجهيز نفسها مرة أخرى لمعركة مع منافسين آخرين. ودافع وزير الخارجية الصيني، مؤخرًا عن التحول من الهيمنة الأمريكية، باعتباره ضامنًا للتوازن والاستقرار الاستراتيجي العالمي. كما علق أندرياس كلوث، من وكالة بلومبرج، بأن بكين، هي القوة الوحيدة التي يمكن أن تتحدى واشنطن على السيادة في الشؤون الدولية، ويوحي بأننا قد ندخل حقبة جديدة، إذا بدأت في تقديم دعم مباشر بالأسلحة لروسيا في حربها مع أوكرانيا، وهو ما سيرسخ الوضع باعتباره حربا بالوكالة بين كتلتين معاديتين.
وبتوسيع فكرة أن حرب أوكرانيا، لديها القدرة على تفاقم التوترات بين واشنطن، وبكين؛ رأى كلوث، أن النظام العالمي الذي يبدو أنه يتبلور وسط خضمها؛ يبدو مشابهًا لظروف الحرب الباردة، مع تحالف غربي رأسمالي منافق، يواجه كتلة اشتراكية، ومجموعة ثالثة، والتي يشار الآن إليها باسم الجنوب العالمي، ولكنه كان سابقًا معروفا باسم حركة عدم الانحياز.
ومن المنظور الأمريكي، وفي حين زعم روبرت كاجان، من معهد بروكينغز، أن العملية العسكرية الروسية، قد غير تصورات الأمريكيين ليس فقط لأوكرانيا، ولكن أيضًا للعالم حيال دور واشنطن فيها، وأن مساعدة الغرب لـ كييف، ترقى الآن إلى الدفاع عن الهيمنة الليبرالية؛ رأى والت، أنه حتى لو لحقت بروسيا هزيمة نهائية، فإن وضعها كدولة نووية ومع عدد سكان كبير، وموارد طبيعية وفيرة، ورقعة جغرافية شاسعة، يبقيها ضمن صفوف القوى العظمى.
وفي حين تم تأكيد المنافسة الأمريكية مع الصين، وروسيا، فقد أوضح والت، أنه من المرجح أكثر ظهور عالم ثنائي القطب، أن تصبح أمريكا الرائدة من بين مجموعة من القوى الكبرى غير المتكافئة، ولكنها لا تزال مهمة. وفي تفسير هذه الديناميكية، استشهد مانينغ، وبوروز، بأن البلدان التي تعد من بين أكبر الديمقراطيات في العالم، لاسيما البرازيل، والهند، وإندونيسيا، والمكسيك لا تُعرف نفسها على أنها جزء من العالم الحر، ولا مع بكين أو موسكو، وبدلاً من ذلك تفضل الحفاظ على مواقعها كجهات فاعلة مستقلة تسعى إلى تحقيق مصالحها الوطنية.
ومع ذلك، حذر مراقبون من أن شكل النظام الدولي هذا ينطوي على العديد من المخاطر على الأمن العالمي. وأشار والت، أنه نظرًا إلى أن القوى العالمية الصاعدة تتولى تدريجيا مسؤولية أكبر بشأن أمنها، بدلاً من الاعتماد على التحالف على المدى الطويل مع واشنطن، أو موسكو، أو بكين؛ فإن سباقات التسلح الإقليمية بين المتنافسين يمكن أن تصبح أكثر شيوعًا وتصعيدًا.
ومن وجهة نظر كلوث، فإنه سواء كان العالم ثنائي القطب، أو متعدد الأقطاب، في هيكله السياسي الدولي، فمن غير المرجح أن يكون هذا جيدا، للعديد من الدول، مشيرًا إلى الحديث عن مجالات النفوذ للقوى العالمية والناشئة على حساب البلدان الأصغر. وأضاف مانينغ، وبوروز، أن هذا العالم حال أصبح متعدد الأقطاب من المرجح أن يكون غير منظم، ومتخم بكثير من الديون والمعاناة من الجوع والتخلف، في بعض أجزاء من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بكيفية استجابة الولايات المتحدة والتحالف الغربي لهذا التغيير حال حدوثه؛ فقد أشار والت، إلى أنه في حين أن القادة الأمريكيين يفضلون التمتع بفرص النفوذ، والسيطرة على الأوضاع الدولية، والتي لطالما نتج عنها اكتساب واشنطن قوة لا غنى عنها في العالم أجمع؛ فهم أيضًا يكرهون التخلي عن منصب الصدارة الأوحد؛ وعليه من المهم أن تدرك إدارة بايدن، أنه تمت العودة إلى عالم زاخر بالعديد من القوى العظمى الأخرى القادرة على تحديها.
ووفقا للعديد من المحللين، فإنه لا يزال بإمكان واشنطن، إحراز التقدم والازدهار الذي تريده في وسط نظام جيوسياسي أصبح متعدد الأقطاب. وأكد والت، أن هذا الأمر قد يحدث إذا قبلت وتفهمت آثاره، واتجهت نحو تعديل سياستها الخارجية وفقًا لذلك، مضيفا أن المنافسة المتزايدة ستعمل على إعادة إنشاء عالم تستحوذ فيه أوراسيا على عديد من القوى الرئيسية ونقاط القوة، التي من المحتمل أن تتجه دولها إلى التنافس فيما بينها بشيء من الحذر.
واستمرارا لهذه الحجة، رأى أنه يمكنها الاستفادة من مرونتها، في اختيار العديد من الحلفاء والشركاء لضبط مواقفها وتحالفاتها، لخدمة مصالحها الخارجية، علمًا بأن هذه القدرة على الاختيار، واللجوء إليها في الأوقات المهمة استراتيجيا، كانت سببا مباشرا، لنجاحاتها السياسة السابقة، مشيرا إلى أنه من الأفضل لها الابتعاد عن اعتمادها على السلطة الصلبة، وأدوات الإكراه، وبدلاً من ذلك، التركيز على الدبلوماسية الحقيقية، لاسيما، وأن القوى الكبرى في النظام العالمي متعدد الأقطاب، ستكون مدركة لضرورة العمل لإقناع المنافسين والحلفاء من أجل إبرام اتفاقات مفيدة لكليهما.
وبالمثل، أوضح مانينغ، وبوروز، أن واشنطن، في وضع جيد لتكييف قيادتها مع الواقع الجيوسياسي الجديد والمعاصر؛ حيث حثاها على فهم حدود القوة بشكل أفضل، واستغلال تفاهماتها الاستراتيجية، والبقاء دائمًا في ضوء الاستعداد لتشكيل تحالفات دولية متعددة، كما نصحا الإدارة الحاضرة والمستقبلية، بأن تكون منفتحة على التعاون مع بكين، وموسكو، فيما يتعلق بالمصالح العالمية المشتركة، والسعي إلى توازن شامل، بدلاً من الإصرار على طموحات يصعب تحقيقها.
ومع تأكيد أن فكرة استعادة القطبية الأحادية الأمريكية من المحتمل أن تكون مستحيلة كليًا؛ خلص والت، إلى أنه لكي تحاول فعل ذلك، فستتكبد كثيرا دون نتيجة، وستكون كل تحركاتها غير مجدية، للتأثير في التوسع العسكري الصيني، أو النمو الاقتصادي الياباني، واحتلال الهند وزنًا أكبر في الساحة الدولية خلال العقود المقبلة.
وفي منطقة يُنظر فيها إلى الولايات المتحدة على أنها تتخلى عن حلفائها والتزاماتها الأمنية؛ أشار جوناثان بانيكوف، من المجلس الأطلسي، أنه بات ينظر إلى الشرق الأوسط من قبل المراقبين الغربيين على أنه في طليعة التحول العالمي نحو عالم متعدد الأقطاب. وأوضح جون ألترمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن شركاء واشنطن الإقليميين في الشرق الأوسط، وأبرزهم دول الخليج، أصبحوا يتحركون بمزيد من الاستقلالية، والقوة، خلال السنوات الأخيرة، لاسيما في ضوء توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية مع بكين، وقيادة الرياض لـ«أوبك»، وتأثيرها في قيادة دفة سياسة الطاقة العالمية.
وبينما دافع كل من مانينغ، وبوروز، عن الأحادية العالمية الأمريكية، باعتبارها كانت مصدرًا للاستقرار والازدهار، على المستوى الدولي؛ أشار والت، إلى أن الفترة التي شهدت تلك الهيمنة ذاق العالم خلالها مرارة حربين أمريكيتين غير ناجحتين في كل من العراق، وأفغانستان، بالإضافة إلى السعي إلى تغيير أنظمة بصورة غير مدروسة، ما أدى إلى وجود دول فاشلة، ناهيك عن تفاقم حالة عدم الاستقرار الإقليمي.
وعليه، خلص الباحثان إلى خطورة تداعيات هذه الأحداث على مكانتها وسمعتها الدولية، مشيرين إلى أنه في الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى، تم زعزعة الاستقرار بها جراء تدخلاتها غير الضرورية؛ ما أدى إلى استياء عالمي لا يمكن إزالة آثاره. وتشير هذه العوامل إلى أن القوى الإقليمية التي بات لديها قدرة أكبر على التصرف في توجيه دفة مصالحها الوطنية ستستمر في القيام بذلك، حتى لو كان هذا يعني انخفاض الدعم الجيوسياسي الأمريكي لها وتوتر العلاقات السياسية القوية.
وبينما أوضح كاجان -فيما يتعلق بسياق الحرب الأوكرانية- أن القوة الأمريكية الوحيدة يمكنها أن تبقي القوى التقليدية الأخرى تحت السيطرة؛ أشار مانينغ، وبوروز، أن الحنين إلى الأحادية لم تعد الاستراتيجية المثلى، ويجب على الولايات المتحدة تقبل حقيقة أنه من حيث الاقتصاد والتكنولوجيا والأسلحة النووية؛ فإن عالم اليوم أصبح متعدد الأقطاب.
وبالنسبة إلى والت، فإنه يرى أنها لكي تتكيف مع هذا النظام العالمي متعدد الأقطاب، سيكون من الضروري أولاً الاعتراف بذلك، ثم ضبط سياستها الخارجية بشيء من المرونة ضمن الانضمام إلى تحالفات وشراكات لسهولة التصدي لمنافسيها.
على العموم، بالنسبة إلى النظام متعدد الأقطاب الذي يشهده العالم، ففي حين أن مانينغ وبوروز، قد أدركا أنه أكثر تعقيدًا، وأقل استقرارًا من نظيره الأحادي أو الثنائي، فقد أكدا أن الأدلة التاريخية تشير إلى أنه يمكن أن ينجح؛ ففي عصر التوترات النووية لدى العديد من الدول، مثل إيران وكوريا الشمالية، ستتيقن الدول الأقوى، وغيرها بالحاجة إلى التعاون والتكيف مع بعضها لتجنب التعرض لتلك الأخطار. ومع بروز النظام متعدد الأقطاب عالميا وتراجع الوجود الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة، فإن هذا الوضع قد فتح الباب إلى مزيد من الاستقلالية لدول المنطقة لمتابعة مصالحها بواسطة شركاء آخرين فيما تؤكد التوقعات أن هذه الديناميكية ستتسارع وتيرتها مع مرور الوقت.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك