اتخذت قضية توطين الوظائف أهمية كبيرة في المجتمعات الخليجية والعربية. مجتمعاتنا مجتمعات شابة تكثر فيها فئة الشباب وتتطلب خلق فرص عمل تلبي طموحاتهم. لا يختلف المجتمع البحريني بل قد يرى البعض أنه بحاجة إلى فرص عمل للشباب أكثر من غيره في منطقة الخليج بسبب محدودية فرص عمل القطاع العام. مساهمة في هذا الحوار المجتمعي نظم مجلس الدكتور محمد عيسى الكويتي ندوة بعنوان: «التنمية الاقتصادية وسوق العمل» قدمها الدكتور عمر العبيدلي (مدير البحوث في مركز دراسات ورئيس جمعية الاقتصاديين).
يرى الدكتور عمر أن ما يحدث لسوق العمل في منطقة الخليج وفي البحرين قد لا يتماشى مع التوجهات الاقتصادية التقليدية، فهي تختلف عن أسواق العمل في الاقتصادات المتقدمة. من نتائج هذا الاختلاف صعوبة في خلق وظائف للمواطنين بما يتوافق مع تطلعاتهم. لا يبدو أن أي دولة خليجية استطاعت ان تعالج ذلك بشكل منهجي ومستدام، بل إنها تعاملت معه عن طريق التوظيف المفرط في القطاع العام. فهل يمكن ان نأتي في البحرين بسياسات بديلة ونتائج إيجابية مختلفة؟
أهم الاختلافات بين أسواق العمل الغربية ووضعنا الخليجي هو التضخم في التوظيف في القطاع العام. نسبة العاملين في القطاع العام في دول الخليج مرتفعة جدا، تبدأ 30% في البحرين (في السلك المدني)، وترتفع النسبة في دول الخليج الأخرى إلى ما فوق 90%. بينما النسبة في الغرب لا تتعدى 20 إلى 25%. لهذا السبب، فإن الوظائف في القطاع العام تمثل إشكالية، كون قرارات التوظيف والأجور غير مرتبطة بمعايير التنافسية ورفع الانتاجية، خلافا لما يحدث في القطاع الخاص، من التزام بميزانية وربحية وتسريح الموظف الذي لا يحقق توقعات الشركة. هذا الوضوح والالتزام غير معمول به في القطاع العام، مما يسهل تضخم التوظيف وارتفاع الاجور. هذه المزايا تمثل أفضلية وجذبا للمواطنين، وخصوصا الذين يرون زملاء لهم يتم توظيفهم في القطاع العام. لا يمكن للقطاع الخاص المنافسة في الرواتب والأجور، وبالتالي إما أن يقبل البحريني بالأجور المتاحة في القطاع الخاص وإما يلجأ صاحب العمل إلى العمالة الأجنبية.
هذا جانب من المعادلة، الجانب الآخر هو كفاءة مخرجات التعليم. وفق المؤشرات الدولية، وخلال العشرين سنة الماضية في البحرين لا يتمتع الخريج بمستوى التأهيل الكافي للحصول على الوظائف التي تلبي طموحاته. قدم «مركز دراسات» في 2018 دراسة إحدى توصياتها إجراء مسح دوري منتظم لقياس فجوة المهارات. وبالتالي فإن علاج المشكلة لا بد أن يبدأ بقياسها وتشخيص أسبابها. وقد قامت تمكين بإجراء هذه الدراسة على قطاعي الخدمات المالية والاتصالات كتجربة لإحلال المواطنين في سوق العمل. تم توسعة الدراسة لتشمل سبعة قطاعات أخرى مثل السياحة والتصنيع وتقنية المعلومات وقطاعات أخرى يرغب المواطنون العمل فيها. السؤال كيف أثر ذلك على سياسات الدولة في التوظيف؟ قد يكون الوقت مبكرا لظهور نتائج هذه الدراسة ونأمل أن توضع السياسات التي تحقق الاستفادة ورفع مستوى التوظيف للبحرينيين. من هذه السياسات المأمولة إجراء بعض الاصلاحات في قطاع التعليم وفي القطاع الخاص بناء على نتائج هذه الدراسات، وإجراء ربط منهجي بين التعليم والقطاع الخاص ليتمكن من خلق فرص عمل بوتيرة أعلى وأفضل.
النقطة الأخيرة في هذا العرض هي الحاجة الماسة إلى وجود ربط مؤسسي بين القطاع البحثي (الجامعات ومراكز الدراسات) وبين صناع القرار في مختلف المجالات والمستويات. هناك كفاءات كثيرة في الجامعات البحرينية بتخصصات متعددة يمكنهم تقديم دراسات رصينة يستفاد منها، إذا ما حدث تشاور منهجي معهم. يحسب لمجلس النواب أخذ استشارات من منظمات المجتمع المدني والمختصين في بعض القضايا، ولكن مازالت مساهمة مجلس النواب في القرارات محدودة مقارنة بتأثير السلطة التنفيذية. مطلوب تشكيل لجان استشارية، يجتمع بها المسؤولون بشكل منتظم، تقدم فيها استشاراتهم وتناقش على نطاق واسع، كما في الدول المتقدمة.
بيّن الدكتور أكبر جعفري في مداخلته أن الحل يكون بالتدريب المهني الذي كان يمارس في الشركات الكبرى في البحرين مثل بابكو والبا في السبعينيات والثمانينيات، التي تخرج بفضلها عمالة ماهرة تمكنت من ادارة التقدم الذي حدث في البا لتكون من أفضل وأكبر شركات صناعة الألمنيوم في العالم وبنسبة بحرنة 93% عام 1990. إذًا، لدينا المعرفة والتجربة السابقة، فماهي المشكلة؟ هل هو ضعف الاعتقاد بأهمية وضرورة المعالجة؟ أم مخرجات التعليم؟ أم أن الاستثمارات الأجنبية لا تسهم في خلق فرص عمل ومعظمها يأخذ اكثر مما يعطي خصوصا في القطاع المالي، ام هو فتح السوق البحريني وفتح المجال لتدريب أبناء الأجانب وتوظيفهم في وظائف مجزية يتطلع إليها البحريني؟ مثل هذه التسهيلات لا تجدها تمنح للأجانب في الدول الغربية، بالرغم من الاقتصاد الحر. ويرى أن الحل في أن تستمع الجهات المسؤولة إلى أصحاب الكفاءات والخبرات والدراسات للاستفادة منها.
أما الدكتور جاسم حسين فيضيف في مداخلته «إن هناك حاجة ماسة إلى برنامج طويل الأمد لا يقل عن عشر سنوات للتدريب مع دعم من الدولة للأجور في الشركات التي تسهم في التوظيف، بالإضافة إلى وضع شروط على الدول المستفيدة من توظيف مواطنيها جلب استثمارات يستفيد منها الاقتصاد البحريني مقابل فرص العمل التي تمنح لمواطنيها.
من خلال المداخلات الأخرى برزت أهمية التخطيط الطويل الأمد لخلق تنويع اقتصادي يقدم فرص عمل متنوعة، وفي الوقت نفسه تطوير منظومة التعليم لتواكب متطلبات السوق والمجتمع وتحقيق الاستفادة القصوى من الطاقات البشرية. كما برزت أهمية تكافؤ الفرص والتنافسية العادلة على جميع فرص العمل المتاحة، وفرض نوع من القيود على توظيف الأجانب أسوة ببقية دول العالم. بالإضافة إلى الحاجة إلى وضع حلول مبنية على دراسات تعالج قضية توظيف الشباب.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك