مع دخول العالم في السنة الثانية للحرب الأوكرانية، وقيام «الولايات المتحدة»، و«أوروبا»، بتقديم مساعدات شاملة لـ«كييف»؛ تشمل بالإضافة إلى إمدادات الأسلحة المتطورة والأموال، مجموعة من العقوبات على رأسها حرمان «موسكو» من الاستفادة من موارد الطاقة لديها، في حين أنها من أكبر مصدريها عالميًا، والمورد الأول لها لأوروبا، ومن ثمّ، لجوء الأخيرة إلى مصادر بديلة.. يبدو أن مشهد الطاقة العالمي في حالة «اضطراب، وعدم استقرار»، وخاصة مع اتساع أمد هذه الحرب، وسعي كلا الطرفين إلى إلحاق الهزيمة بالآخر، والحيلولة دون خروجه منتصرًا.
في ضوء هذه الديناميكيات، يتأزم مشهد الطاقة من ناحية، وتتغير أسواقه من ناحية أخرى، فيما لا يكون أمام «روسيا»، إلا بيع نفطها وغازها لأطراف غير ملتزمة بنظام العقوبات الأمريكي الغربي، أو في السوق غير الرسمي، ما يضع سقفًا أمام احتمالات ارتفاع الأسعار التي ترشحها الأزمة. ففي البيع لهذا السوق الموازي غير الرسمي، نشط ما يسميه المتعاملون بـ«أسطول الظل»، بنحو 600 سفينة، تمثل ما يعادل10% من العدد العالمي للناقلات الكبيرة، لنقل النفط الروسي إلى هذا السوق.
وبشكل عام، مثّل هذا الوضع «تغييرا»، لأنماط التداول القائمة منذ عقود، حيث قُسم نظام الطاقة العالمي إلى قسمين. ووفقًا لـ«وكالة الطاقة الدولية»، عززت «الصين»، وارداتها من النفط الروسي إلى 1.9 مليون برميل يوميًا في المتوسط خلال عام 2022، بزيادة 19% عن 2021، وزادت «الهند»، من مشترياتها، إلى 900 ألف برميل يوميًا في المتوسط، بنسبة زيادة 800%، فيما سجلت صادرات النفط الروسية إلى كلا الدولتين مستويات قياسية في يناير 2023، بعد أن دخل الحظر الأوروبي على نفطها المنقول بحرًا حيز التنفيذ، وكذلك قرار «الاتحاد الأوروبي»، بفرض سقف لسعر نفطها عند 60 دولارا للبرميل، في حين استمرت صادراتها إلى تركيا، وهي عميل رئيسي آخر بشكل كبير.
وفي جزء من هذا التحول، تشير بيانات إلى أن حجم «أسطول الظل»، ينمو بقدرة 25 إلى 35 سفينة شهريًا، وأن معظم مالكيه من أوروبا، وله تاريخ قديم في نقل النفط المهرب من «إيران»، و«فنزويلا»، لتجنب العقوبات الغربية. وبينما حظرت الدول الغربية معظم واردات النفط الروسية، فلا توجد أي قواعد تمنع السفن الغربية من التسليم لمشترين، مثل «الصين»، و«الهند»، أو تقديم خدمات مثل التأمين، طالما يتم احترام سقف أسعار مجموعة السبع.
من ناحية أخرى، ترفع الزيادة في حجم هذا الأسطول كلفة نقل النفط لجميع تجار هذه السلعة، حيث تظل السعة المتبقية محدودة، فيما تم تداول النفط الروسي (خام الأورال) عند سعر 65 دولارا للبرميل، وهو يزيد قليلاً على سقف السعر الذي حدده الاتحاد الأوروبي. وقبل أن يدخل الحظر الأوروبي حيز التنفيذ كانت موسكو قد كسبت من مبيعاتها النفطية إلى أوروبا قرابة 67 مليار دولار، فيما بلغت كلفة حربها في أوكرانيا العام الماضي قرابة 60 مليار دولار. وفيما كان الحظر يهدف إلى منعها من جني ثمار مبيعاتها النفطية إلى أوروبا؛ لكنها وجدت تعويضًا من جانب آخر. وردًا على تحديد سقف بيع أسعار نفطها، أعلنت اعتبارًا من أول فبراير2023 وقف بيع نفطها للدول التي اعتمدت هذا السقف، فيما دخلت «أوروبا»، في أزمة البحث عن بدائل.
وفي ظل تغيرات أسواق الطاقة، نجد أن «أوروبا»، تفوقت على «آسيا»، لتصبح أكبر مستهلكي النفط الأمريكي لأول مرة منذ 6 سنوات. ووفقًا لـ«بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي»، فقد استحوذت الأولى على نحو 213,1 مليون برميل من هذا النفط في المدة من يناير إلى مايو 2022، في حين تلقت الأخيرة 191,1 مليون برميل في هذه الفترة، فيما غدت مبيعاته لدول أخرى، تسجل مستويات قياسية، تبلغ 3,4 ملايين برميل يوميًا، مع صادرات بنحو 3 ملايين برميل يوميًا من المنتجات المكررة، كالبنزين والديزل. وعلى الرغم من أن «الولايات المتحدة»، تعد من بين أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال، ويبلغ معدل إنتاجها من النفط الخام 13 مليون برميل يوميًا، فإنها مازالت تستورد النفط الخام، حيث إن استهلاكها يتجاوز 20 مليون برميل يوميًا، فضلا عن أن هذه السياسة، تجعل أوروبا أكثر اعتمادًا عليها، وليس على روسيا.
وبحسب بيانات «الوكالة الدولية للطاقة»، فإن «واشنطن»، زادت كميات الغاز الطبيعي المسال التي تستوردها «أوروبا»، بمقدار 66 مليار متر مكعب، ما عاد بالفائدة الكبيرة عليها، إذ وفرت ثلثي هذا التدفق الإضافي، أي نحو 43 مليار متر مكعب خلال عام 2022، فيما شكلت «أوروبا»، المحرك الرئيسي لزيادة الطلب على الغاز الطبيعي المسال، عبر الاستغناء عن الغاز الروسي. وفي العام الماضي، زادت شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا بنسبة 63%، في حين كانت هناك انتقادات للإدارة الأمريكية، بعد أن رفعت الأخيرة أسعار بيع الغاز بأكثر من 4 أضعاف سعر بيعه في السوق الأمريكية، في الوقت الذي تضغط فيه على أوروبا لقطع إمدادات الغاز الروسية.
وفي السنة الثانية للحرب، يدفع مشهد الطاقة المضطرب إلى الإسراع بوتيرة التكامل الإقليمي عبر المتوسط أكثر من أي وقت مضى، مع تطلع دول جنوب وشرق المتوسط أيضًا، وعلى رأسها دول الخليج، إلى زيادة التدفقات التجارية والاستثمارات المتبادلة، ومع وجود العديد من المنطلقات لتحقيق هذا التكامل. وفي حين أن قيمة التجارة عبر منطقة المتوسط، تقدر بأقل من تريليون دولار سنويًا، ما يمثل نحو ثلث قيمة التجارة بين المنطقة وبقية العالم؛ فإن نحو ثلث قيمة التجارة الإقليمية يقع في مجال الطاقة.
وفي الوقت الحالي، تنظر دول أوروبا إلى هذا التكامل على أنه يعوض اعتمادها على إمدادات الطاقة الروسية، حيث مازالت تعتمد على المنتجات البترولية، بنحو ثلث إجمالي إمدادات الطاقة فيها، يليها الغاز الطبيعي بنسبة 24%. وفي ظل هذا الوضع، تسعى حاليا إلى زيادة وارداتها من النفط والغاز من جنوب وشرق المتوسط. فيما تمثل «الجزائر»، بالفعل ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي إليها، وهناك إمكانية لزيادة هذه الإمدادات، سواء من خلال الأنابيب أو الغاز الطبيعي المسال الآتي من جنوب المتوسط وشرقه.
وعلى المديين المتوسط والطويل، يمتد هذا التكامل لجهة تحول «أوروبا»، إلى مصادر الطاقة النظيفة، والاستثمار في الإمكانات غير المستغلة لمصادر الطاقة المتجددة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين، وهي المصادر التي يمتلك فيها الجانب الجنوبي من المتوسط، «ميزة تنافسية». ومن خلال قربها من الأسواق الأوروبية، يمكن أن تصبح دول جنوب وشرق المتوسط، «موردًا موثوقًا» للطاقة. وبالفعل، اتجهت أوروبا إلى هذه المنطقة؛ بحثًا عن بديل لإمدادات الطاقة الروسية، وتأمين احتياجاتها.
واستمرارًا لهذه الحجة، نشرت «المفوضية الأوروبية»، و«المجلس الأوروبي»، مؤخرًا وثيقتين على درجة عالية من الأهمية: الأولى «خطة ريباور أي يو»، لتقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، والثانية بشأن «الشراكة الاستراتيجية مع الخليج». وتؤكد هذه الوثائق جدية أوروبا في التخلي نهائيًا عن واردات الطاقة الروسية، ما يكون له انعكاسات عميقة على خريطة الطاقة العالمية، ويخلق فرصًا وتحديات، خاصة للإمارات وقطر.
وتسعى الشراكة الاستراتيجية إلى تعميق العلاقات «الأوروبية –الخليجية»، ومحورها الطاقة. وتتضمن محاور الشراكة؛ «زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال، إجراءات لتحقيق الاستقرار في أسواق النفط، التعاون في مجال الهيدروجين، كفاءة الطاقة، تسريع انتشار الطاقة المتجددة». ولعل، أحد أهم المجالات الواعدة في مجال الطاقة بين الكتلتين، وخاصة الإمارات، هو إنتاج «الهيدروجين الأخضر»، حيث تتطلع المنطقة الخليجية كي تصبح من الموردين الرئيسيين للوقود النظيف.
وفي عام 2021، استورد «الاتحاد الأوروبي»، 344 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، منها 155 مليار متر مكعب من روسيا ما يمثل 40%. وخلال هذا العام، كانت «قطر»، أكبر مصدر للغاز المسال عالميًا، حيث تصدر ما يقرب من 105,5 مليارات متر مكعب، أي نحو 21% من الإمدادات العالمية. ونظرًا لارتباطها بعقود توريد طويلة الأجل، فإن ما وردته إلى أوروبا في أغسطس 2022، كان فقط 2.7 مليار متر مكعب. ومع ذلك، فإن بإمكانها توفير قرابة 10% مما تحتاج إليه «أوروبا»، لتعويض واردات الغاز الروسي.
وتشير بيانات إلى أن واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز المسال، قد تصل إلى قرابة 120 مليار متر مكعب سنويًا بين عامي 2022 – 2025، أي أعلى بنسبة 55% عن 2021. وتنظر «أوروبا»، إلى «قطر»، بصفتها واحدة من الموردين القلائل القادرين على صنع الفارق على المديين المتوسط والطويل، من خلال خططها الوطنية للتوسع في تصدير الغاز المسال بحلول 2025 بتوسعة حقل الشمال. وفي المقابل استثمرت الدول الأوروبية في البنية التحتية لاستقبال الغاز المسال، وشاركت قطر في هذا الاتجاه في بلجيكا، وبريطانيا، وفرنسا.
ومع استمرار بحث «أوروبا»، عن بدائل لما يقرب من 1,3 مليون برميل يوميًا من النفط الروسي، و900 ألف برميل يوميًا من المنتجات النفطية؛ فإن هذا الوضع يضمن للإمارات، خيارًا لتعزيز حضورها في أسواق الطاقة الأوروبية تدريجيًا مع تجنب التوترات مع روسيا. وبصفتها ثالث أكبر منتج في «أوبك»، وتمتلك ثاني أكبر طاقة فائضة بعد السعودية؛ فإنها في وضع جيد يعزز علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي في قطاع الطاقة، وخاصة مع توسيع القدرات الإنتاجية من قرابة 4 ملايين برميل يوميًا، إلى 5 ملايين برميل يوميًا خلال السنوات الخمس المقبلة. وتحتل الإمارات المرتبة 12 عالميًا من حيث إنتاج الغاز المسال، وتتبنى زيادة الإنتاج من خلال مشروع الفجيرة، الذي تبلغ سعته 13 مليار متر مكعب سنويًا، ويرفع قدراتها التصديرية إلى 21 مليار متر مكعب بحلول 2026، متجاوزة بذلك سلطنة عُمان، التي تمتلك قدرة تصديرية 15 مليار متر مكعب سنويًا، في حين تبلغ قدرة التسييل في قطر 105,50 مليارات متر مكعب سنويًا.
على العموم، مع حالة عدم الاستقرار التي شهدتها أسعار الطاقة في الآونة الأخيرة؛ توقعت «إدارة معلومات الطاقة الأمريكية»، أن يصل متوسط سعر خام غرب تكساس الأمريكي إلى 77,2 دولارا للبرميل في 2023، ما يمثل هبوطًا بنسبة 10,6% مقارنة بتقديراتها السابقة، ووصول سعر خام «برنت»، إلى 83 دولارا للبرميل بانخفاض نحو 10% عن تقديراتها السابقة، كما خفضت توقعاتها لسعر الغاز الطبيعي بنسبة 9,8%، لتصل إلى 4,9 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية. فيما توقع «البنك الدولي»، أن تتراجع أسعار الطاقة بنسبة 11% خلال عام 2023. ويعزز هذا التوقع، «حالة الركود في الاقتصاد العالمي، والأداء الضعيف للاقتصاد الصيني». ويؤدي انخفاض الأسعار إلى زيادة الطلب على النفط إلى قرابة 102 مليون برميل يوميًا، بزيادة 1,7 مليون برميل عن مستواه في 2022.
يأتي هذا فيما أبقت «الأوبك»، على توقعها بزيادة الطلب في 2023، عند مستوى 2,5 مليون برميل يوميًا، ونمو إنتاج النفط من خارجها عند مستوى 1,5 مليون برميل يوميًا، وأن يتوسع المعروض من خارجها أيضا بمقدار 1,9 مليون برميل يوميًا، في حين أشارت المنظمة إلى أن توقعاتها مشوبة بعدم اليقين؛ بسبب التطورات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية. ومن المعلوم، أنها تمد السوق العالمية يوميًا بـ28,9 مليون برميل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك