أشرتُ في المقال السابق لاستراتيجيات مواجهة الكوارث بشكل عام وتضمن المقال بعض الأمثلة سواء التي عكست نماذج ناجحة أو تلك التي كان بها أوجه قصور في مواجهة الكوارث، وقد تابعت كغيري من المهتمين بمجال إدارة الكوارث والأزمات الكتابات والتحليلات التي وردت بشأن التعامل مع نتائج الزلازل في كل من تركيا وسوريا وكان لافتاً تأكيد بعض التحليلات أن دول الخليج العربي ليست ضمن خطوط وقوع الزلازل أو أنها ليست ضمن احتمالات وقوع تسونامي، وربما يكون ذلك صحيحاً بشكل جزئي حيث تجاور دول الخليج المناطق التي ربما تتعرض لمخاطر تلك الكوارث بما يعني أنها قد تطالها ولو بشكل جزئي، وقبيل الحديث عن واقع جهود دول الخليج في ذلك المجال والتحديات التي تواجهها، فإن الأزمات المزمنة التي يشهدها الإطار الإقليمي لدول الخليج العربي تحمل في طياتها كوارث تمتد آثارها سنوات وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمثلة الأول: خلال الحروب التي شهدتها المنطقة ومنها الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 والغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990 لم تنج البيئة البحرية من كارثة التلوث البحري الذي لا تزال آثاره تمتد حتى اليوم ، والثاني: تأثير الأزمات الإقليمية على احتمالات كوارث بيئية ومن ذلك ناقلة النفط صافر التي تحمل على متنها أكثر من مليون برميل من النفط الخام ويحتجزها الحوثيون منذ عام 2015 بلا صيانة قبالة السواحل اليمنية وحال انفجارها سوف تؤدي إلى كارثة بيئية غير مسبوقة سواء بالنسبة إلى دول الخليج العربي أو دول جوارها، والثالث: مخاطر التسربات الإشعاعية من المفاعلات النووية الإيرانية، فإضافة إلى أن هناك تقارير عديدة تؤكد أن تصميم تلك المفاعلات لم يتضمن معايير الأمان النووي فهي تقع ضمن منطقة حزام زلزالي بالإضافة إلى أنها ربما تكون عرضة لهجوم عسكري من خلال طائرات درونز وتزداد مخاطر التسربات الإشعاعية من تلك المفاعلات لكون أن مياه الخليج العربي تسير عكس عقارب الساعة ومع سرعة الرياح فإن تلوث مساحات كبيرة من مياه الخليج العربي سيكون أمراً محتملاً وهو ما يمثل تحدياً لدول الخليج في ظل وقوع كل محطات تحلية المياه على سواحل الخليج العربي.
دول الخليج العربي أولت إدارة الكوارث أهمية بالغة على المستوى الخليجي الجماعي ومن ذلك تأسيس مركز إدارة حالات الطوارئ بمجلس التعاون ويستهدف التعامل مع الكوارث الطبيعية والبيئية ودعم صانعي القرار بالحقائق العلمية قبل وأثناء وبعد هذه الحوادث لاتخاذ الإجراءات المناسبة بما يحد من آثار تلك الكوارث، وعلى مستوى كل دولة خليجية على حدة من خلال استحداث العديد من المؤسسات ذات الصلة بإدارة الأزمات والكوارث في تلك الدول.
ومع أهمية ما سبق فإن طبيعة الكوارث وتعددها تجعل من الاهتمام بها ضرورة استراتيجية سواء على مستوى الدولة ككل أو ضمن المؤسسات بداخلها وفي تقديري أن ذلك الاهتمام يجب أن يتخذ ثلاثة مسارات، المسار الأول ضرورة الاهتمام بمواجهة الكوارث ضمن مؤسسات إدارة الأزمات التي تم تأسيسها لهذا الغرض، صحيح أن هناك خططا فرعية في بعض الجهات ذات الصلة المباشرة باحتمال مواجهة أي كوارث مثل التلوث البحري أو البيئي إلا أن ذلك لابد وأن يكون مرتبطاً بخطة أشمل على مستوى الدولة ككل وربما تكون هناك حاجة إلى دراسة طبيعة الكوارث المماثلة في دول أخرى وكيفية مواجهتها من أجل تحديد الدروس المستفادة ولكن في الدول ذات الظروف التي تتشابه مع دول الخليج من حيث طبيعة الكوارث المتوقعة، المسار الثاني: زيادة وتيرة الاهتمام بالوعي المجتمعي لمواجهة كوارث متوقعة حتى ولو على مستوى المؤسسات الأصغر وهنا تجدر الإشارة إلى تنفيذ الإدارة العامة للدفاع المدني في مملكة البحرين ممثلة في إدارة الحماية والسلامة في 22 فبراير 2023 تمرين إخلاء وهمي بالمدرسة البريطانية والذي استهدف التأكد من جاهزية فريق الأمن والسلامة بالمدرسة وزيادة مستوى الوعي بإجراءات الأمن والسلامة وكيفية إخلاء المدرسة بطريقة آمنة في حالات الطوارئ وقد تمت عمليات الإخلاء في وقت قياسي بمشاركة 2795 شخصاً من الكادر التعليمي والطلبة من مختلف المراحل الدراسية وهي تجربة جديرة بالاهتمام والتعميم على عديد من المدارس الأخرى، أما المسار الثالث: فهو تمرينات المحاكاة للأجهزة الأمنية ذاتها وهي التمرينات التي توليها كل دول العالم والمؤسسات الأكاديمية الأمنية أهمية بالغة لأن تلك التمرينات تتخذ طابعاً عملياً، صحيح أنها تؤسس على أسس أكاديمية ومعايير محددة ولكنها تستهدف بشكل أساسي الإجابة عن ثلاثة تساؤلات جوهرية ذات صلة وثيقة بنجاح مواجهة الكوارث وهي ما طبيعة الكوارث المتوقعة بشكل واقعي بما يتسق مع البيئية الخليجية، وما القدرات المتوافرة لدى دول الخليج العربي لمواجهة تلك الكوارث سواء المادية أو البشرية وكيفية توظيفها وأخيراً ما الفجوات، ولاشك أن تكرار إجراء مثل تلك التمرينات من شأنه أن يعزز من القدرات البشرية للتعامل مع الكوارث.
ومع أهمية ما سبق تبقى قضيتان مهمتان للغاية ضمن استراتيجيات دول الخليج لمواجهة الكوارث الأولى: الوعي المجتمعي الذي يظل هو حجر الزاوية في تلك المواجهة وأقصد بالوعي هنا ليس فقط ثقافة التعامل مع الكوارث لدى كل شرائح المجتمع بل أيضاً توعية القاطنين على مقربة من المنشآت الصناعية بكيفية التصرف حال حدوث تسربات من تلك المنشآت ، ولاشك أن وجود متحدث إعلامي خلال مواجهة الكوارث يظل متطلباً رئيسياً أيضاً، ففي ظل ثورة الاتصالات الحديثة فإن الشائعات يمكن أن تفاقم من تداعيات الكارثة وليس الحد منها، والثانية: الجانب التعليمي إذ يجب أن يكون موضوع الكوارث مقرراً أساسياً في كل المؤسسات التعليمية الأمنية والدفاعية بشكل موسع ليس من منظور نظري وإنما التركيز على الجوانب العملية من خلال تكليف الدارسين بإجراء بحوث ذات طابع تطبيقي من زوايا مختلفة متكاملة بشأن إدارة الكوارث.
وفي تصوري أن إدارة الكوارث يجب أن تتجاوز المجالات التقليدية مثل تلوث البيئة والأمن البحري لتشمل مجالات أخرى فرضت ذاتها وبقوة كتحد أمام دول العالم كافة ومن بينها التهديدات السيبرانية والتي تزداد حدتها في الدول التي تزداد وتيرة تحولها نحو الحكومة الإلكترونية بما يجعها هدفاً لعمليات قرصنة واسعة النطاق. ومجمل القول إنه على الرغم من أن دول الخليج العربي تعد نسبياً في مأمن من تعرضها لكوارث طبيعية ولكن النظرة الشاملة لمفهوم الكارثة واستمرار حالة التأزيم الإقليمي الراهنة تجعل من الاهتمام بمسألة مواجهة الكوارث أمراً ملحاً من خلال العمل وفق استراتيجيات وطنية تتكامل مع الاستراتيجية الخليجية الجماعية في ظل تشابه ظروف دول الخليج العربي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك