تعدُ التغيرات المناخية إحدى أهم القضايا التي تحظى بالاهتمام على المستوى العالمي والمُلحة في وقتنا الحالي، كما تقف عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ما سرع من وتيرة التحرك الدولي هو تعرض عديد من دول العالم إلى نوبات طقس شديدة أسفرت عن خسائر بشرية ومادية كبيرة، حيثُ شهدت السنوات الأخيرة عديدا من مظاهر التغير المناخي، والذي يعد أحد أكبر التحديات على الصعيد العالمي، وقد وضع العالم جهوده بواسطة الخبراء المختصين بالشأن المناخي لرصد آثار تغير المناخ والتخفيف من حدته والتكيف قدر الإمكان معه، والاستجابة لاتفاق باريس بشأن تغير المناخ وهدف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة الثالث عشر، الذي يتوخى اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغير المناخ وآثاره، لقد أصبح العمل المناخي أحد أهداف التنمية المستدامة بشكل مباشر متمثًلا في الهدف الثالث عشر، ومؤثرًا بشكل غير مباشر في باقي أهداف التنمية المستدامة، وطبقا للتقارير العلمية المنشورة، فإن التغيرات المناخية تهدد إنتاج المحاصيل الزراعية، وبالتالي تهدد الأمن الغذائي العالمي، ما قد يعوق ويحد من القدرة على تحقيق الهدف الثاني من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة المعني بالقضاء على الجوع.
هناك حقائق رئيسية هي أن المناخ وتغيراته تؤثر في المحددات الاجتماعية والبيئية للصحة والهواء النقي ومياه الشرب والغذاء الكافي والمأوى الآمن، حيثُ يتوقع أن يسبب تغير المناخ في الفترة من عام 2030 إلى عام 2050، نحو 250000 وفاة كل عام بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري، ويقدر أن تتراوح التكاليف المباشرة للضرر على الصحة، أي دون احتساب التكاليف في القطاعات المحددة للصحة مثل الزراعة والمياه وخدمات الصرف الصحي) بين 2 و4 مليارات دولار في العام بحلول عام 2030، وقد أكد الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ (IPCC) في تقريره الخامس، أن درجة الحرارة العالمية في تنامٍ مستمر، ومن المتوقع أن ترتفع من 2.6 درجة مئوية إلى 4.8 درجات مئوية بحلول عام 2100، وخاصة في ظل ارتفاع درجة حرارة المحيطات، وتناقص كمية الثلوج والجليد وانخفاض مستوى سطح البحر، ووجود المزيد من الموجات الحارة، وذوبان الجليد في القطب الشمالي.
وقد جاء في التقرير الدوري الصادر عن مجلس التجارة والتنمية التابع لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) مجموعة من التوصيات بشأن التغيرات المناخية. حيث تم التركيز فيه على أهمية ضخ استثمارات إضافية في البحوث الزراعية مع التركيز على المعلومات المتعلقة بتغير المناخ والإرشاد الزراعي، وتبني تقنيات ري جديدة وتطوير الهياكل الزراعية الأساسية. مشيرًا إلى أهمية توافر بيانات أكثر دقة عن تقلبات المناخ والتوقعات المناخية الموسمية، والتي بلا شك ستساعد في التخطيط الأمثل للزراعة والإنتاج، ومن ثم تفادي تعرُّض المحاصيل الزراعية للخطر؛ لذا يتوجب علينا في المرحلة القادمة التركيز الفعلي على تعزيز الممارسات الزراعية المستدامة والتركيز على التقدم التكنولوجي للحد من تأثير تغيرات المناخ، والعمل على وضع سيناريوهات لما قد يصاحب هذه التغيرات. وبالنسبة إلى وجهة النظر حول الأمن الغذائي، فإن دراسة مدى تأثير تغيرات المناخ على الغطاء الزراعي وتنوع المحاصيل التي تزرع في المملكة بات أمرًا ضروريا لمواجهة تداعيات الأمن الغذائي، وحتى نتمكن من تحليل الواقع المستقبلي واستقراء التغيرات المناخية المؤثرة في الوضع الغذائي، وإيجاد طرائق وحلول جديدة، قد تغير نظرتنا حول قضية شح المياه ووفرة السلع الزراعية.
تعد التغيرات المناخية ذات تأثير واضح على أسعار الغذاء وإنتاجه، حيثُ أجرت عديد من المراكز والمؤسسات البحثية العالمية عددًا من الدراسات للوقوف على التداعيات المترتبة على ظاهرة التغير المناخي على الأمن الغذائي، وتوضيح مدى تأثير الفيضانات وارتفاع درجات الحرارة في الإمدادات الغذائية. وقد خلصت منظمة أوكسفام الخيرية والمعنية بمكافحة الفقر عالميًا، في تقرير أعدته لدراسة الآثار المحتملة للتغيرات المناخية على أسعار السلع الغذائية بحلول عام 2030، إلى أن أسعار محاصيل الذرة ستزيد بنسبة 177%، والقمح بنسبة 120%، والأرز بنسبة 117%، واضعين في الاعتبار نسب التضخم. وفي دراسة أخرى، توقعت النماذج العالمية للمحاصيل والنماذج الاقتصادية زيادة بنسبة 1-29% في أسعار الحبوب في عام 2050 بسبب تغير المناخ؛ ما سيؤثر في المستهلكين على مستوى العالم من خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وتختلف التأثيرات الإقليمية؛ حيثُ إن المستهلكين ذوي الدخل المنخفض معرضون للخطر بشكل خاص، حيث تشير النماذج إلى زيادات قد تصل إلى 183 مليون شخص إضافي معرضين لخطر الجوع.
ولا يزال كوكب الأرض يختبر قدرة سكانه على المقاومة ومواجهة التحديات، ومن بين كل ما يشهده عالمنا وكل التقدم والتطور الاقتصادي الذي تم إحرازه في القضايا العالمية، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين علينا القيام به نحو تحديات تغيرات المناخ. ولتحقيق التوازن الأمثل والتغلب على مثل هذه التحديات لابد من وجود دعم وتعاون دولي قوي: لذا فقد أقرت لجنة الأمن الغذائي العالمي في الدورة التاسعة والثلاثين المنعقدة في روما بإيطاليا 2-15 أكتوبر من عام 2021، العمل على تشجيع المزيد من التقارب بين السياسات والتنسيق فيما يتعلق بالأمن الغذائي العالمي، وأشارت اللجنة إلى أن التأثيرات المعاكسة لتغير المناخ يمكن أن تشكل تهديدات خطيرة على الأمن الغذائي، حيثُ يتوجب العمل من قبل جميع الدول في العالم على:
{ بناء القدرات الوطنية والمحلية للتصدي للتحديات المرتبطة بالأمن الغذائي وتغير المناخ.
{ إجراء عمليات تقييم دورية للمخاطر وأوجه الضعف والقدرات، مع مراعاة المساواة بين الجنسين والأبعاد الغذائية.
{ وضع سياسات متكاملة لاستخدام الأراضي من أجل تحقيق الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ.
{ الإسهام في الحد من تأثيرات المناخ، دمج التكيف مع تغير المناخ وإدارة أخطار الكوارث في سياسات الأمن الغذائي وبرامجه.
{ تشجيع المزارعين على الأخذ بالممارسات الجيدة في الزراعة والصيد والرعي، والإحالة من دون حدوث تدهور وانجراف التربة، تشجيع تبادل المعلومات بين برامج الأبحاث المتعلقة بتغير المناخ والأمن الغذائي بين الدول الأعضاء والمنظمات الدولية.
{ دعم منظمات المجتمع المدني، والمنظمات الزراعية من أجل المشاركة في صنع القرارات وتنفيذ سياسات وبرامج الأمن الغذائي للتصدي لتغير المناخ.
{ تشجيع إقامة منتديات على المستويات الوطنية والإقليمية تشجيعًا لتوسيع مشاركة المجتمعات المحلية، والقطاع الخاص في صنع القرارات المتعلقة بالأمن الغذائي.
إن التغيرات المناخية لها دور مؤثر بشكل سلبي على الأمن الغذائي، إن قضية التغير المناخي باعتبارها القضية الأساسية في عصرنا الحالي، تمثل تهديدًا حقيقًا خطيرًا على الأمن الغذائي والتنمية المستدامة والجهود المبذولة لأجل القضاء على معضلة الفقر، ويكون ذلك نتيجة التحول الحادث في أنماط الطقس التي أدت إلى ارتفاع مستويات سطح مياه البحر، والتي بدورها تزيد من أخطار الفيضانات الكارثية التي تهدد بدورها إنتاج الغذاء في العالم. ومن المؤكد وجود عدة تداعيات ناتجة عن معضلة التغير المناخي، وأبرزها تلك المتعلقة بالمحاصيل الزراعية، والتي تتضمن مظاهر عدة من أبرزها التغير الحاصل في معدلات سقوط الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة التي بدورها تعمل على تدني الإنتاجية الزراعية لعديد من المحاصيل الزراعية، إلى جانب ظهور وانتشار الآفات الزراعية، والتي بدورها تؤثر سلبًا في أهم الركائز الأساسية للأمن الغذائي، وهي: التوافر، والوصول، والاستخدام، والاستقرار. وهذه الركائز تتأثر جميعها بقضية التغير المناخي، ومن ثم فإن تركيز العديد من الدراسات على عنصر التوافر فقط عند استعراض التأثيرات المحتملة للتغيرات المناخية على الأمن الغذائي قد يقودنا إلى احتمالية عدم إدراك كثير من الآثار السلبية الأخرى التي طالت الركائز الثلاث الأخرى؛ وعليه فلابد من التطرق إلى جميع هذه الركائز عند الحديث عن تداعيات التغير المناخي على النظام الغذائي في العالم، وهناك ضرورة أن يتم تمكين التغييرات اللازمة للتكيف مع قضية التغير المناخي وتداعياتها على الغذاء، والعمل على تطبيقها على أرض الواقع؛ وذلك من خلال ضخ الاستثمارات ووضع السياسات اللازمة وإنشاء المؤسسات في مختلف المجالات، وبالشراكة مع القطاع الخاص. ولكي تكون هذه التغييرات أكثر فاعلية، يجب أن تكون جزءاً من استراتيجيات وخطط متكاملة توضع بطريقة شفافة ومراعية لأبعاد التنمية المستدامة، الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، كما يجب أن تستند إلى تقييمات المخاطر ونقاط الضعف والتحديات والفرص الموجودة، مع الاستفادة من التجارب والتقدم المحرز في مختلف الدول وخاصة التجارب الناجحة في القطاع الزراعي وكيفية التكيف مع تغيرات المناخ والتخفيف من تداعياته السلبية على الأمن الغذائي، وضمان توافرها للجميع والقضاء على كل أشكال الجوع.
{ مختصة في فلسفة الدراسات
البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك