المجتمع المدني هو ذلك الحشد من المنظمات غير الحكومية، الطوعية، المستقلة، غير الهادفة إلى الربح، التي تلتزم الحياد السياسي والديني، وتتسم بالديناميكية، واللاعنف. ويشغل المجتمع المدني المجال بين الأسرة والدولة، ويعمل داخل الإطار القانوني للدولة، وهذا التعريف يستبعد الشركات لأنها هادفة للربح، كما يستبعد المنظمات العسكرية وشبه العسكرية كالمليشيات؛ لأنها ليست مدنية، وبعض التعريفات يستبعد الأحزاب السياسية لأنها تسعى إلى السلطة.
وعليه، يعد المجتمع المدني، هو القطاع الثالث في كل دولة إلى جانب الحكومة والقطاع الخاص، وقد أخذت بعض منظماته في التمدد خارج الحدود إقليميًا ودوليًا، وأنشأت فيما بينها روابط وشبكات، كـ«الشبكة العربية للمنظمات الأهلية»، والاتحادات النقابية، والتعاونية، والمنظمات الحقوقية الدولية غير الحكومية، ولأنه يقوم على الحياد السياسي والديني؛ فإنه يعد من أهم آليات تعزيز المواطنة، وخاصة في الدول التي تتسم بالتعددية الاجتماعية، ولأن منظماته تعتمد على الأعضاء، فهو يقوم على التشاركية، وينشط حين تنشط مشاركات الأعضاء في تحقيق الأهداف التي من أجلها قامت هذه المنظمات.
وبالنسبة إلى الأمم المتحدة، فقد أدركت منذ وقت مبكر أهمية الشراكة مع المجتمع المدني؛ لأن قيامه بدوره يعزز مُثلها العليا، ويساعد في دعم عملها. وعليه، أتاحت لمنظماته الحصول على مركز استشاري مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي، كما تُعد وحدة المجتمع المدني، التابعة لإدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي، هي الرابط بين الأمم المتحدة والعديد من منظمات المجتمع المدني حول العالم.
وإذا كانت هناك أربعة أنواع تندرج تحتها منظمات المجتمع المدني، وتشمل العمل الخيري، والرعائية الخدمية، والحقوقية، والتنموية، والتي تعكس تطور أجيال هذه المنظمات من العمل الخيري إلى العمل التنموي؛ فقد أخذ بروز المنظمات التنموية واتساعها، يكتسب قوة دفع مع التحولات الاقتصادية. وتم التعبير عنه أحيانا بالطريق الثالث، أو النمط البديل، في ظل إخفاقات السوق، وثقل أعباء دولة الرفاهة وعدم قدرتها على تلبية متطلبات هذا الدور، وخاصة في الأوقات التي تقل فيها مداخيلها، وفي أوقات التكيف الهيكلي، وضرورة استنهاض دور المجتمع للتصدي لقضايا الفقر والبطالة والصحة والإسكان والتهميش.
وترجع البدايات الأولى للمجتمع المدني الخليجي إلى النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدًا في البحرين والكويت، حيث اكتسب قوة دفع بعد الطفرة النفطية، وظهور النقابات العمالية، وجمعيات النفع العام والأندية الثقافية والرياضية والجمعيات المهنية. وكان إقرار دستور الكويت في نوفمبر 1962 بداية لتأسيس مجتمع مدني قائم على أسس قانونية، وهو ما تكرر في دستور البحرين بعد ذلك، ودساتير الدول الخليجية الأخرى. وعلى مستوى دول مجلس التعاون الخليجي الست، بلغ عدد منظمات المجتمع المدني في بداية الألفية الثالثة نحو 2000 جمعية.
وفي الوقت الحالي، يوجد في المملكة العربية السعودية، 3156 منظمة مجتمع مدني. وفي رؤيتها 2030، وضعت المملكة ضمن أهدافها زيادة مشاركة القطاع غير الربحي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة عدد المتطوعين إلى مليون شخص من الجنسين، وذلك في سبيلها لخلق مجتمع مندمج وطموح. وينعكس هذا الهدف الرقمي في تحسين جودة حياة المواطنين، وزيادة الدور المجتمعي في بناء التوازن والاستقرار، حيث نظرت المملكة إلى المجتمع المدني كقطاع يسهم بفاعلية في مجالات متعددة تخدم المجتمع، وتعزز ثقافة المسؤولية، وأنه حجر زاوية يمكن الاعتماد عليه في تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030.
وإدراكًا لأهمية هذا الدور أنشأت المملكة، المركز الوطني للقطاع غير الربحي، بهدف تنظيم وتنشيط وتوسيع دور منظماته في المجالات التنموية المختلفة، وتنسيق الجهود الحكومية في تقديم خدمات الترخيص لهذه المنظمات، والمساعدات الإدارية والفنية والمالية. وفضلاً عن هذا المركز، يقوم قطاع التنمية الاجتماعية في وزارة التنمية الاجتماعية والموارد البشرية، بوظيفة الجهة الإدارية التي تتولى الإشراف ودعم هذه المنظمات لتحقيق أهدافها.
ولدعم دورها التنموي، أطلقت وزارة البيئة والزراعة، السعودية عدة مبادرات، منها مبادرة الزراعة العضوية، ومبادرة التشجير لزيادة المساحات الخضراء، كما أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، مبادرة صندوق دعم الجمعيات، إضافة إلى دعم مؤسسة الملك سلمان بن عبد العزيز للعمل الخيري، ومنصة لتسويق المنتجات، والترويج للتجارة الإلكترونية، ودعم الابتكار، وجمعيات سيدات الأعمال، ومنظمة عطاء لخدمة الأسر المحتاجة، ودعم مشروعات الفرانشايز، ومنظمة المودة لتنمية الأسرة، والهندسية الخيرية للخدمات الهندسية، ومؤسسة عبد الله إبراهيم للعمل الخيري، كما تعددت المبادرات الداعمة من قبل الهيئة العامة للأوقاف، ووزارات العدل، والصحة، والتعليم، والبلديات والشؤون القروية والإسكان.
وكما كانت قيم التكافل الاجتماعي والعطاء ومساعدة الأخرين، هي بداية نشأة المجتمع المدني في السعودية، فقد كانت كذلك في الكويت، الأسبق في نشأة هذه المنظمات -كما ذكرنا- وغلب على هذه المنظمات العمل الخيري، حتى إن منظماته قد مثلت نحو 78.2% من إجمالي منظمات المجتمع البالغة 462 جمعية، ويمتد دورها إلى خارج الكويت. وتشمل النسبة الباقية المنظمات التي تعنى بقضايا المرأة والمعاقين، والشباب، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، والأنشطة التنموية والاجتماعية، ودعم الشفافية ومحاربة الفساد، وتعزيز المشاركة الديمقراطية والحكم الرشيد، ما كان له دوره في صدور قانون الهيئة العامة لمكافحة الفساد (نزاهة) عام 2016.
علاوة على ذلك، فإن الدور الاقتصادي للمجتمع المدني الكويتي، يبدو جليا من خلال الحركة التعاونية، التي تتسم بطابع ريادي في منطقة الخليج والمنطقة العربية، حيث تهيمن الحركة التعاونية الكويتية على نشاط التوزيع بالتجزئة، ومن ثمّ، كان لها إسهامها الواسع في حماية المستهلك، وتوفير احتياجاته من السلع والخدمات، حيث تتبنى الدولة منهج الشراكة مع المجتمع المدني في كل المجالات.
وفيما يتعلق بمملكة البحرين -الأقدم خليجيًا في نشأة المجتمع المدني- فإن منظمات المجتمع تعد ركيزة أساسية، فيما شهدته المملكة من تطور وتقدم في مسيرتها التنموية الشاملة، حيث بلغ عددها ما يزيد على 640 منظمة عام 2022، بينما كانت لا تتعدى 200 في عام 2000. وتتنوع منظمات المجتمع المدني البحرينية، بين الخيرية، والاجتماعية، والحقوقية، والنسائية، والشبابية، والمهنية، وجمعيات للجاليات الأجنبية.
وإدراكًا للدور المحوري لمنظمات المجتمع المدني في التنمية، أنشأت الحكومة البحرينية، مركز دعم المنظمات الأهلية، الذي يتبع وزارة التنمية الاجتماعية، للعمل على زيادة التنسيق فيما بينها، ويقدم لها الدعم الفني والمالي. وتنظر المملكة إلى هذا المجتمع على أنه يشكل القوة الاقتصادية الاجتماعية الثالثة، إضافة إلى القطاعين العام والخاص. وتحرص وزارة التنمية الاجتماعية، على مشاركة منظماته في جميع الندوات، والمؤتمرات، وورش العمل التي تعقدها، كما تشارك في إعداد التقارير الوطنية الدورية الحقوقية التي تلتزم الحكومة البحرينية بتقديمها، وتراقب الجمعيات الحقوقية الانتخابات النيابية والبلدية، فيما برز دورها الفاعل أثناء جائحة كورونا.
أما في الإمارات، فقد كانت النشأة قبل النفط، متمثلة في النوادي الرياضية والمجالس الخاصة والملتقيات الأدبية. وكانت المساجد محورًا للعمل الأهلي الخيري والتطوعي، كما كانت القبيلة وهي إحدى المؤسسات التقليدية للمجتمع المدني تدير شؤونها الداخلية بمعزل عن أشكال السلطة. ومع بروز الدولة الاتحادية وتحريك السكون الاجتماعي، وجلب الرفاهية والحياة المدنية، والانفتاح الحضاري على الثقافات المعاصرة؛ أخذت منظمات المجتمع المدني بمعناها الحديث في الظهور، وبلغ عددها 17 جمعية في 1974. وسمح التشريع الإماراتي الاتحادي للجاليات الأجنبية بإنشاء هذه المنظمات حتى بلا إشهار، ليرتفع بذلك عددها إلى 64 عام 1980، ويصل إلى 92 في 1994. وفي الوقت الحالي، غدت هذه الجمعيات تنعم بالرعاية الدستورية، ونما الإدراك العام بدورها التنموي. وعلى امتداد السنوات الماضية جرى الترخيص لعدد من الجمعيات المهنية؛ كالصحفيين، والأطباء، والمهندسين، والاقتصاديين، وجمعيات حقوق الإنسان، والجمعيات النسائية، وأخذت هذه الجمعيات خاصة في أبوظبي، ودبي، تحظى بدعم كبير لأنشطتها.
وفي سلطنة عُمان، كانت البداية الرسمية عام 1972، حين قامت الجمعية التاريخية العمانية، التي مارست دورًا بالغ الأهمية في حفظ الأثار والمخطوطات. وقد صدر أول قانون ينظم الأندية والجمعيات عام 1973، وأخذت منظمات هذا المجتمع في التزايد، ففي عام 2007 بلغ عدد جمعيات المرأة 51 جمعية، فيما يبلغ حاليًا هذا العدد 59، إلى جانب 6 أفرع للمرأة في جمعيات أخرى. وتواكب مع زيادة عدد هذه الجمعيات تزايد الجمعيات الخيرية، وخاصة بعد إصدار دستور البلاد في 1996، وصدور قانون الجمعيات في 2002، وتولت وزارة التنمية الاجتماعية، مسؤولية الإشهار والإشراف، وأكدت (رؤية 1996-2020)، وما تلاها أهمية تفعيل المشاركة الأهلية في تنمية المجتمع، وخصت بالذكر الجمعيات النسائية.
وفيما يتعلق بقطر، فقد حظي المجتمع المدني فيها بدعم دستوري في المادة 45، ونظم القانون رقم (12) لسنة 2001، تشكيل منظماته وعملها، وظهر الإدراك للدور التنموي لها في مؤتمر الدور التكاملي للمنظمات غير الحكومية والحكومية والدولية في التنمية المستدامة بالدوحة في 2002، وفي الملتقى الثالث لمنظمات المجتمع المدني في الدول العربية ودورها في التنمية في الدوحة في 2006، حين كان عدد الجمعيات قد بلغ 70 جمعية، تنوعت بين الخيرية، كدار الإنماء التي نشأت في 1996، والمهنية، والتنموية، خاصة في المجال الاجتماعي وتمكين الأسر المحتاجة. ووضعت قطر منظمات المجتمع المدني ضمن رؤيتها المستقبلية 2030، وحظيت بدعم كامل من الحكومة، ويتولى هذا الدعم المؤسسة القطرية للعمل الاجتماعي.
على العموم، فإنه على مستوى كل دول مجلس التعاون الخليجي، هناك إدراك متزايد بأهمية الدور التنموي للمجتمع المدني، وخاصة في مجالات التنمية الاجتماعية، وأن هذا الدور يتعزز بمساعدة الحكومات لهذه المنظمات ودعمها فنيًا وتنظيميًا وماليًا للقيام بدورها. وإذا كان النشاط الاقتصادي يُترك للقطاع الخاص، فإن التنمية الاجتماعية، بمجالاتها المختلفة هي المجال الذي يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تلعب دورًا محوريًا فيه.
ومع ذلك، يبقى أن تعالج مؤسسات هذا المجتمع المعوقات التي تقف دون فاعليتها، وعلى رأسها تنمية ثقافة المشاركة، وإلا تصبح مجرد أرقام في تعداد المؤسسات، وهذه المشاركة من شأنها أيضًا حل إشكالية التمويل التي تعاني منها بعض منظمات المجتمع المدني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك