نشرت مجلة «The Economist» في عددها السنوي لعام 2022 لمؤشر الأمن الغذائي العالمي تقريرا مفصلا حول مستجدات الأمن الغذائي في دول العالم وصنف التقرير البلدان من حيث الأفضل والأسوأ في مجال أمن الغذاء من خلال قدرة البلدان لاستيفاء أربعة معايير أساسية: القدرة على تحمل تكاليف الغذاء، توافر الغذاء، الجودة والسلامة، الاستدامة والتكيف. وجاءت فنلندا وإيرلندا والنرويج في المراتب الأولى من حيث البلدان الأفضل في مؤشر أمن الغذاء، وجاءت اليمن وهايتي وسوريا الأقل دوليا في ذات المؤشر. ويأتي السؤال هنا، كيف أصبحت فنلندا من البلدان الأفضل حول العالم في مؤشر الأمن الغذائي؟
تاريخياً، عانت فنلندا من تهديدات الأمن الغذائي خلال العقود الماضية، وكانت تعتمد على استيراد الأغذية بنسبة تصل إلى 70% منذ تسعينيات القرن الماضي حين ظهرت أول علامات انعدام الأمن الغذائي في عام 1991 عندما نشرت وزارة الشؤون الاجتماعية والصحة دراسة استقصائية سلطت الضوء حول توافر الغذاء في فنلندا، ولخصت الدراسة أن هناك ما يقرب من حوالي 100 ألف مواطن فنلندي كانوا يعانون من الجوع في الفترة بين 1992-1993، حتى أصبحت تحديات الأمن الغذائي في فنلندا من المواضيع ذات الأهمية الكبيرة لدى صناع القرار، وتحولت فنلندا من دولة تعاني من تداعيات خطيرة لأمن الغذاء إلى دولة يحتذى بها في مجال الصناعة والابتكار الغذائي ومن البلدان الأولى عالمياً في مؤشر أمن الغذاء منذ السنوات العشر الماضية. ولم تكتفِ الحكومة الفنلندية من الإنجازات التي وصلت بها إلى هذا الحد، ولكنها أطلقت في عام 2021 إستراتيجية أبحاث وابتكار الغذاء 2021 - 2035 وتهدف هذه الاستراتيجية إلى جعل فنلندا مثالاً دولياً في الانتقال نحو نظام غذائي عالمي صحي ومستدام وإنشاء فرص نمو اقتصادية جديدة مبنية على المعرفة العلمية والابتكار الغذائي للمزارعين وقطاع إنتاج الأغذية. والأهم من ذلك أن الاستراتيجية لم تكن نتاج عمل حكومي بحت، بل تم إشراك جميع أصحاب المصلحة والجهات الفاعلة وأصحاب الخبرة والباحثين والأكاديميين من مختلف التخصصات ورواد الأعمال ومنظمات المجتمع المدني لإنتاج هذه الاستراتيجية.
ومنذ العقدين الماضيين، بدأت السلطات الفنلندية بإطلاق عدة مبادرات لحماية الأمن الغذائي والتي بدأت من التخفيف من القيود القانونية في مجال صناعة الأغذية ودعم المزارعين وإطلاق الاستراتيجيات الوطنية والبرامج التعليمية في المدارس والجامعات وإشراك جمعيات المجتمع المدني والقطاع العام والخاص بهدف نشر الوعي وزيادة فعالية إنتاج الأغذية والتقليل من النفايات الناتجة عنها. ولم تأت هذه الاستراتيجيات إلا بعد عمل دراسات وبحوث استقصائية شاملة قامت بها مؤسسات البحث والتطوير لمساعدة الحكومة الفنلندية على اتخاذ القرارات المناسبة والمتعلقة بزيادة مستوى الابتكار والحفاظ على الأمن الغذائي المحلي.
وعندما نرجع إلى قائمة البلدان الأفضل في قائمة هذا المؤشر، سيكتشف القارئ أن البلدان التي نالت المراكز الأولى في مؤشر الأمن الغذائي استخدمت أدوات البحث والتطوير والتعليم والابتكار قبل كل شيء لمعرفة كيفية مواجهة تحديات الأمن الغذائي المحلي، وتشمل هذه القائمة دولة عربية مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي وصلت إلى المركز الـ 23 عالمياً وتقدمت على سنغافورة (المركز 28) في ثلاثة معايير كتوفير الغذاء، الجودة والسلامة، والاستدامة والتكيف.
أصبح التمويل في مجال أبحاث الغذاء والزراعة محدودا خلال السنوات الأخيرة، ولكن مع ذلك، فقد زاد تمويل الأبحاث الغذائية في بعض البلدان النامية مثل الهند والبرازيل والصين وغيرهم، الذين أصبحوا من كبار المستثمرين في مجال البحث والتطوير الغذائي منذ عام 2008. ولا يجب أن يقتصر تمويل البحث والتطوير في مجال الزراعة والابتكار وحماية الأمن الغذائي على أي دولة نامية كانت أو متقدمة، لأن الأمن الغذائي ونظام الغذاء مسألة عالمية أكثر من كونها مسألة داخلية، وأن زيادة الانفاق في البحث والتطوير في هذا المجال سيخلق أداة فاعلة قادرة على الاستجابة للتحديات الناشئة من انعدام الأمن الغذائي وأبعاده المختلفة.
لعل التقدم في الابتكار في مجال الغذاء والزراعة والأمن الغذائي من التحديات البارزة لدى الدول الجزرية، مثل البحرين، التي قد تحتاج إلى تطوير وتنفيذ أجندات فعالة من قبل خبراء دوليين ومحليين من جميع التخصصات العلمية والمهنية بشكل يجعل المملكة قابلة للتكيف ضد التقلبات الاقتصادية العالمية والجيوسياسية، بالإضافة إلى توفير الغذاء بأسعار مقبولة للجميع وتمكين الصناعة وريادة الأعمال في مجال الزراعة وإنتاج الغذاء، والاستفادة من الخبرات الدولية، كالتجربة الفنلندية، في هذا المجال.
{ مركز البحرين للدراسات
الاستراتيجية والدولية والطاقة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك