في الذكرى الأولى للحرب الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير 2022، قدم المحللون الغربيون مجموعة من التقييمات لتداعياتها على الجغرافيا السياسية والاقتصاد والأمن العالمي، خاصة أن هناك اتفاقا على أنها أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945، كان لها آثار ذات أبعاد عالمية، أبرزها «تغيير المواقف الدفاعية الغربية المتسقة لعقود من الزمن»، فضلا عن «التشكيك في مكانة روسيا الدولية وقوتها العسكرية».
ومع وصف المراقبين للعملية العسكرية الروسية، بأنها «خطأ استراتيجي كبير»، في ضوء فشلها في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في الإطاحة بالحكومة الأوكرانية، أو ضم البلاد بالكامل، فقد ثبت أن قدرات الجيش الروسي أقل فاعلية بكثير مما كان يُعتقد سابقًا. وأشار «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، إلى أن «تدريبه غير كاف بالنسبة إلى الأفراد، ووصف القيادة بـ«عدم الكفاءة». علاوة على ذلك، تمت الإشارة إلى الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الروسي، في مقابل إعادة توحيد وتوسيع التحالف الغربي ليشمل الدول الأوروبية غير المنحازة سابقًا.
وفي ذكراها السنوية الأولى، أشار المراقبون إلى كيف توفر «حرب أوكرانيا»، رؤى حول حالة الصراع التقليدي في القرن الحادي والعشرين. ومن جانبه، شبهها «أناتول ليفين»، من «معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول»، بـ«الحرب العالمية الأولى»؛ حيث «المزيج المعقد من التكتيكات والأساليب والأسلحة منخفضة وعالية التقنية»، فضلا عن «عودة حرب الخنادق البدائية، واستخدم الطائرات المُسيرة والمدفعية بعيدة المدى والدبابات والصواريخ والطائرات المقاتلة، مع اللجوء إلى الكثير من المعدات المُقدمة من قبل حلفاء كلا الطرفين». كما تم نشر صور للقتال تم التقاطها بواسطة الأقمار الصناعية والطائرات المُسيرة، والمقاتلين أنفسهم عبر وسائل الإعلام التقليدية، وبالاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي؛ ما وفر للرأي العام في جميع أنحاء العالم، رواية للحدث ليست معهودة.
وفي تناوله لديناميكيات الحرب الأساسية التي تؤكد أهميتها للأمن العالمي؛ حدد «فيليبس أوبراين»، من جامعة «سانت أندروز»، ثلاثة دروس أساسية مُستقاة من السنة الأولى لها هي أن: «النزاع المسلح ليس دائمًا بالأمر اليسير أو السهل»، ثانيًا، «وجود السلاح لا يعني مباشرة توفر القوة»، وأخيرًا، «الهوية الوطنية مهمة». وفي ظل اعتماد الجيش الروسي على «الأسلحة القديمة»، أوضح أن إخفاقاته العسكرية خلال الحرب هي «نتاج تراجع النظام سياسيًا».
في المقابل، رأى «أوبراين»، أن النظام الديمقراطي الأوكراني أثبت أنه يستطيع «الاستجابة بقوة ومرونة وذكاء» للتهديدات الوجودية، لا سيما في كيفية «تمكين مواطنيه وجنوده من الارتجال والتحلي بروح المبادرة»، وهو ما يتعارض مع التسلسل الهرمي الصارم للجيش «الروسي». بالإضافة إلى ذلك، أوضح أن «تقليل موسكو من أهمية الهوية الوطنية لأوكرانيا؛ قد ساهم بشكل كبير في تحقيق «الإخفاقات العسكرية»، خلال الحرب. وعلى الرغم من إجراء مقارنات مع النضالات السابقة لـ«فيتنام»، ضد الولايات المتحدة، و«أفغانستان» ضد الاتحاد السوفيتي، أوضح أيضًا كيف «أخفق الكثير بالغرب في تقدير مدى احترام الأوكرانيين لاستقلالهم وديمقراطيتهم».
ومن بين التأثيرات الجيوسياسية الأكثر لفتًا للانتباه في الحرب، ما ذكرته «ليانا فيكس»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، من أنها «بشرت بعصر جديد من التعاون الأمني الأوروبي»، حيث توحد أعضاء الناتو إلى حد كبير لإدانة روسيا، فيما اتفقوا على ضرورة تزويد «كييف»، بالمساعدة المالية والعسكرية. وفي حين أن التصورات العامة حول مقدار الدعم الذي يجب تقديمه اختلفت مع تناقض الآراء في «فرنسا»، و«ألمانيا»، و«إيطاليا»، بشكل حاد، مع تلك الموجودة في «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، وكلاهما كان داعمًا قويًا في وقت مُبكر لحكومة «زيلينسكي»؛ فقد أدى الضغط من أجل زيادة وحدة العمل في نهاية عام 2022، إلى زيادة الدعم إلى مستوى غير مسبوق، بحيث امتد ليشمل المركبات المدرعة والذخيرة، والدبابات، واحتمالية الطائرات المقاتلة أيضًا. ومن الناحية العملية، تم تسليم أول دبابات «ليوبارد 2» الألمانية متقدمة الصنع لكييف؛ ما يُدلل على أن الدعم من المقرر أن يتوسع.
وعقب سنوات من تضاؤل التركيز على السياسة الدفاعية والأمنية، أوضح «ديفيد سانجر»، و«أنطون ترويانوفسكي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه بالنسبة إلى الغرب، تدور «حرب أوكرانيا»، حول «القوة ومبدأ السيادة الإقليمية»، وكذلك «ما إذا كان النظام العالمي المصمم من قبل الغرب سوف ينجو من تحديات جديدة تمثلها موسكو وبكين». وفي هذا الصدد، رأت مجلة «ذي إيكونوميست»، أن «سلطة الغرب في العالم»، سيتم تحديدها في ضوء «مصير أوكرانيا».
ومع ذلك، فإن لهذه الديناميكية إشكالياتها الخاصة. ومن وجهة نظر «إليوت كوهين»، من «جامعة جونز هوبكنز»؛ فإن الاستجابة الغربية للحرب «لم تكن مشكلة استراتيجية»، بل كانت مشكلة «تكتيكات تنفيذية». ويضيف «جراهام أليسون»، المساعد الأسبق لوزير الدفاع الأمريكي، أنه مع «انهيار اقتصاد أوكرانيا، وجدت «كييف» نفسها «معتمدة على الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية» للحصول على الدعم المالي، وهو أمر من المرجح أن يدفع الغرب إلى الخوض أكثر في الحرب.
وبالنسبة إلى «روسيا»، أشار «أليسون»، إلى أن عمليتها العسكرية في أوكرانيا، كانت «خطأ استراتيجيًا كبيرا». وفي تفسيره لهذا الأمر، أشار «كوهين»، إلى أنها «جعلت عضوية «كييف» في حلف الناتو، أو الاتحاد الأوروبي «أكثر ترجيحًا»، من أي وقت مضى، بدلاً من ضمان «موسكو»، عدم انضمامها إلى هذه المؤسسات». وإذا ما نظرنا إلى قرار كل من «السويد»، و«فنلندا» – وهما دولتان غير منحازتين عسكريًا سابقا، ويوجدان على مقربة شديدة من الحدود الروسية – للانضمام إلى الناتو، نستنتج أن توقعات بوتين بغياب الرد الأوروبي قد جاء بنتائج عكسية.
علاوة على ذلك، فإن الحرب ساعدت على زيادة الضغط المحلي على «بوتين»، والذي أوضح «جيمس نيكسي»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أنه «ربما يكون في أخطر موقف له على الإطلاق»، لاسيما وأن المظاهر الخارجية بالسيطرة السياسية المحلية الكاملة، ربما يكون خادعًا للديناميكيات الحقيقية داخل «موسكو»، وسط إخفاقه النهائي في تحقيق انتصار سريع وحاسم لصالحه.
وفي محاولة لشرح سبب فشل الهجمات العسكرية الروسية في إجبار أوكرانيا على الاستسلام، وكيف أخفقت «موسكو»، في ردع التداعيات وردود الفعل الغربية، أوضح «أوبراين»، أن تصوير خبراء الأمن الغربيين لتلك الحرب على أنها تشنها «قوة عظمى ضد أخرى صغيرة»، يعتبر «أمرا مضللا»، حيث إنه بصرف النظر عن وضعها كقوة نووية، فإن روسيا، «تتخلف كثيرًا في أوضاعها الاقتصادية بشكل مغاير عن سمعتها الدولية». وعلى الرغم من كونها أكبر دولة جغرافية عالميًا، والأكثر اكتظاظًا بالسكان أوروبيًا، فإن الناتج المحلي الإجمالي لها قبل الحرب، كان يحتل المرتبة العاشرة عالميًا، وبالتالي يعد «أقل من عُشر الناتج الأمريكي».
بالإضافة إلى ذلك، فقد أثرت سلسلة من العقوبات الغربية في قوة الاقتصاد الروسي، لاسيما مع مقاطعة نفطها منذ بدء الحرب، وتقليص مستوى صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية، وفرض حد أقصى على أسعار منتجاتها النفطية، الأمر الذي دفع «بريان أوتول»، و«دانيال فرايد»، من «المجلس الأطلسي»، لتأكيد أن تلك التدابير «لها تأثير أكبر مما قد يبدو»، بالإضافة إلى أن هناك توقعات أوسع نطاقًا بزيادة خسائر الاقتصاد الروسي».
وعلى الرغم من تقليل المعلقين من شأن الانتكاسات العسكرية الروسية في الأشهر الأخيرة؛ فقد أكد «أليسون»، أنه ينبغي «عدم تجاهل حقيقة أن «موسكو»، قد نجحت في إضعاف أوكرانيا بشدة على أرض الواقع». وعند الإشارة إلى سيطرتها على 11% من الأراضي الأوكرانية في السنة الأولى من الحرب، واقتران ذلك بسيطرتها على شبه جزيرة القرم منذ عام 2014؛ فإن هذا يعني أنها تسيطر على خُمس الأراضي الأوكرانية».
ونظرًا إلى أن «كييف»، جعلت عودة جميع الأراضي المستولى عليها «شرطًا» للسلام؛ فإن استعادة شبه جزيرة القرم يجب أن تندرج تحت هذا الإصرار. ومع دعوة المسؤول السابق بمجلس الأمن القومي الأمريكي، «مايكل ألين»، وخبراء «المجلس الأطلسي»، الغرب لدعم مثل هذه الخطوة؛ فإن الإجراءات العملية المعقدة، والقوة اللازمة للقيام بذلك، تجعل الأمر «مستبعدا». وعند الأخذ في الاعتبار احتمالية التصعيد الروسي – بما في ذلك التهديدات النووية – فمن غير المفاجئ أن نرى وزير الخارجية الأمريكي، «أنتوني بلينكين»، يحث «كييف»، على تهدئة رغباتها في استعادة جميع الأراضي في أقرب وقت ممكن.
وفي ظل التحذيرات حول الهزيمة العسكرية المفترضة لروسيا في أوكرانيا، أفادت صحيفة «نيويورك تايمز»، أن محاولات الغرب لـ«عزل موسكو» دوليًا في أعقاب عمليتها العسكرية، «لم تنجح»، لا سيما من خلال رفض بعض الدول -بما في ذلك الصين والهند ودول متعددة أخرى في الشرق الأوسط- إدانة تصرفاتها تحت أروقة الأمم المتحدة.
وبعد مرور عام على الحرب، لا يمكن إنكار أنها أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية. وعلى الرغم من تأكيد التغييرات التي طرأت على الأمن الأوروبي في المقام الأول، فقد أوضح «ريتشارد فونتين»، من «مركز الأمن الأمريكي الجديد»، أن «جميع البلدان – بما في ذلك أوكرانيا ودول أوروبية وآسيوية – تريد حاليًا إعادة تسليحها؛ لضمان حماية أمنها القومي بشكل أفضل، وتجنب مصير كييف».
وفي الوقت الحاضر، يبدو أن إنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا، أمرا «بعيد المنال»، في ضوء استمرار تصاعد وتيرة الأعمال العسكرية، وتوقع حدوث هجمات جديدة من كلا الطرفين خلال الأشهر المقبلة. وعليه، اعتبر «سانجر» و«ترويانوفسكي»، أن زيارة «بايدن»، المفاجئة إلى «كييف»، في فبراير 2023، تمثل «معاينة» لحجم «المنافسة المباشرة المتزايدة»، بين الولايات المتحدة، وروسيا.
ولعل الأهم من ذلك، أنه بينما علق المراقبون بأن «روسيا»، حدث لها انتكاسات استراتيجية؛ بسبب الحرب، لا يمكن إنكار أن الأوكرانيين هم الضحية الأساسية لها بلا منازع. ووفقًا لـ«مجلس حقوق الإنسان»، التابع للأمم المتحدة، عانت «كييف» على الأقل من 8 آلاف حالة وفاة مدنية، مع نزوح 14 مليون شخص، ووجود 18 مليونا آخرين في «حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية». ومع إشارة «أليسون»، إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لها بنسبة 35% على الأقل، بالإضافة إلى أن 40% من بنيتها التحتية للطاقة، قد دمرت بسبب الهجمات الروسية؛ أوضحت «باتريشيا كوهين»، و«ليز ألدرمان»، في صحيفة «نيويورك تايمز»؛ أن تقديرات تكلفة إعمار أوكرانيا تتجاوز 750 مليار دولار. وحتى لو تم توفير هذه الأموال؛ فإن الجدول الزمني لمعالجة الدمار الذي لحق بالبلدات والمدن، سوف يمتد بلا شك إلى عقود.
على العموم، فإنه على الرغم أن أوكرانيا تواصل تحدي احتمالات هزيمتها، حيث يمكن أن يساهم تدفق الأسلحة الغربية المتقدمة لمساعدة «كييف»، في تقدمها العسكري؛ فإنه توجد فرص لروسيا لقلب دفة الحرب لصالحها، خاصةً إذا استفادت بشكل أفضل من مزاياها العددية.
ومع ذلك، يبقى من المسلم به أيضًا أن توازن القتال على الأرض لا يزال «محفوفًا بالمخاطر»، لا سيما أنه من المتوقع أن تشن روسيا هجومًا كبيرًا في محاولة للسيطرة على المزيد من الأراضي، وهي الأمور التي تعزز من تأكيد المحللين، بأن الحرب لن تنتهي في أي وقت قريب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك