مجموعة كبيرة من الملوثات يُطلق عليها الآن بعد أن بدأتْ صُورتها تتضح يوما بعد يوم بالملوثات الأبدية، أو الملوثات الخالدة (forever chemicals)، أي الملوثات التي ستمكث معنا طويلاً، وستجثم على صدورنا، وستبقى في جميع مكونات بيئتنا وفي أعضاء وخلايا أجسادنا أبد الدهر، وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذا الاكتشاف الجديد ليس حكراً الآن على أروقة مختبرات العلماء المختصين وعلى الذين يبحثون في أعماق مختلف مصادر ومصير هذه الملوثات بعد ولوجها في بيئتنا، ولم يعد من الموضوعات العلمية والبيئية البحتة التي يهتم بها العلماء فقط، فيسبرون غورها وتفاصيلها، ويتناقشون فيها مع بعض في مؤتمراتهم ومجلاتهم وفي دائرتهم العلمية الضيقة والمتخصصة، وإنما تحولت إلى قضية رأي عام عالمي على نطاق جغرافي واسع شمل معظم دول العالم، فوصلت إلى وسائل الإعلام الجماهيرية الشعبية في كثير من الدول الصناعية المتقدمة وغير المتطورة، فأصبحت حديث البسطاء من الشعوب وتحولت إلى همٍ جديد يضاف إلى همومهم الأخرى الصحية والاجتماعية والسياسية. ولذلك فقد قامت بعض الصحف المرموقة، مثل صحيفة «لومونْد» الفرنسية (Le Monde) بتخصيص صفحات كثيرة، وفي عدة أعداد منها وفي الصفحات الأولى لتغطية آخر أخبار هذه الملوثات، وأماكن وجودها وتركيزها في القارة الأوروبية بشكلٍ خاص، وفي القارات الأخرى بشكل عام.
فعلى سبيل المثال، نَشرتْ جريدة «لوموند» تقريرا معمقاً ومطولاً في 23 فبراير 2023 تحت عنوان: «التلوث الخالد: اكْتَشفْ خارطة التلوث بمركبات الفلورين العضوية في أوروبا»، وصدر هذا التقرير «العلمي» بالتعاون مع 17 وكالة متخصصة، وجامعة، ومؤسسة بحثية من القارة الأوروبية، وهذه الخارطة تُعد الأولى من نوعها وتبين اتساع رقعة تلوث المدن والدول الأوروبية بهذه المجموعة الخالدة والمستقرة من الملوثات.
فما هذه الملوثات التي لا تموت؟
هذه المجموعة من المركبات العضوية التي تحتوي على أعدادٍ كثيرة من عنصر الفلورين التي تم إنتاجها وتسويقها منذ أكثر من ستين عاماً، ونجحت في أن تدخل في مكونات الآلاف من المنتجات الاستهلاكية الشخصية، والمنزلية، والصناعية، كان بسبب خواصها «السحرية» الفريدة من نوعها، من حيث استقرارها وثباتها وخمولها كيميائياً وحيوياً، إضافة إلى مقاومتها الشديدة للماء. ولذلك دخلت هذه المواد في تطبيقات كثيرة في حياتنا اليومية، ومن أكثرها شيوعاً لدى عامة الناس هي أواني الطبخ من المقلاة والقدور وغيرها التي عند استخدامها لا تلتصق عليها المواد الغذائية فيسهل تنظيفها، ويُطلق عليها بالتِيفَالْ، أو التِفْلُون. كذلك استخدمت هذه المركبات في صناعة الأثاث، والأقمشة، والأصباغ، وتغليف المواد الغذائية، والمبيدات، إضافة إلى استخدامها كرغوة لإطفاء الحرائق، ما ساعد على انتقالها ودخولها بكل سهولة ويسر في جميع مكونات البيئة وانتشارها في مساحات جغرافية واسعة. وأما الاسم العلمي لهذه الأعداد الضخمة من المركبات التي تزيد على عشرات الآلاف هي «المركبات العضوية متعددة الفورين» أو «بي إف أي إس» (Per- and polyfluoroalkyl substances (PFAS)).
ولكن هذه الصفات السحرية التي كانت تتميز بها هذه المواد وأفرط الإنسان في إنتاجها واستخدامها في تطبيقات عملية كثيرة، تحولت مع الوقت إلى أزمة بيئية وصحية لجميع البشر في كل أنحاء العالم من دون استثناء، وشكلت للإنسان وباءً جديداً هو في غنى عنه. فالخواص الإيجابية العجيبة لهذه المواد أصبحت تمثل تهديداً لكل مكونات بيئتنا من ماء وهواء وتربة والكائنات الحية التي تعيش عليها، فتحولت إلى سلبيات كارثية يحصد الإنسان اليوم ثمرات سوء إدارته وتخطيطه وجهله بالتعامل مع المواد التي يُدخلها طواعية وبيديه إلى بيئته.
فمن مميزات هذه المواد ثباتها واستقرارها عند دخولها في البيئة، وهذا الاستقرار بسبب الرابطة القوية جداً التي تربط بين الكربون وعنصر الفلورين، والتي لها القدرة على مقاومة التحلل في الطبيعة، ولها القوة الكامنة على مواجهة أي عامل طبيعي حيوي أو فيزيائي يحاول كسرها وتحللها، ولذلك فهي تبقى موجودة في عناصر البيئة، وتستمر في زيادة تركيزها كل يوم، وتبدأ سنة بعد سنة في التراكم والتضخم في تركيزها في مكونات البيئة غير الحية، ثم تنتقل وعبر مسافات جغرافية واسعة وبعيدة عن أنشطة البشر إلى مكونات البيئة الحية بتراكيز أعلى، وأخيراً تصل عبر السلسلة الغذائية إلى الإنسان.
فهناك عدة طرق تصل فيها هذه الملوثات العضوية الثابتة إلى جسم الإنسان، منها عن طريق الهواء الجوي واستنشاق الهواء الجوي الملوث بهذه المركبات، ومنها عن طريق صرف المياه المعالجة الصناعية والمنزلية الملوثة بها إلى المسطحات المائية، ثم إلى الحياة الفطرية في هذه المسطحات المائية، وأخيراً إلى الطيور المائية والإنسان من خلال تناول مواد غذائية من أسماك وطيور ملوثة، بحسب المنشور في تقرير وكالة البيئة البريطانية في أكتوبر 2019، تحت عنوان: «المركبات العضوية متعدد الفلورين: المصادر، وطرق تحركها والمعلومات البيئية».
وهذه الطرق التي تؤدي إلى تسمم الإنسان بهذه المواد ليست نظرية، أو مبنية على تكهنات وتوقعات غير حقيقية، وإنما أثبتت الدراسات العلمية المخبرية والميدانية وجود هذه السموم المنتشرة في الهواء الجوي، ومياه الشرب، وأجسام الكائنات الفطرية في البر والبحر، وفي أعضاء جسم الإنسان. فالدراسة العلمية التي قامت بها صحيفة «لوموند» تحت إشراف المراكز العلمية المتخصصة تحت عنوان «مشروع التلوث الخالد» خلصت إلى وجود هذا التلوث في 17 ألف موقع في القارة الأوروبية في المياه السطحية، والجوفية، والتربة، والكائنات الحية، وتراوح التركيز بين 10 إلى أكثر من 10 آلاف نانوجرام من الملوثات في الكيلوجرام، أو جزء في البليون.
كذلك نُشرت دراسة أكدت قُدرة هذه الملوثات على التحرك السريع والانتقال من مصدر التلوث في المدن إلى مواقع بعيدة ونائية من كرتنا الأرضية، مثل البحث الذي سيُنشر في مجلة «علوم البيئة الكلية» (Science of The Total Environment) في الأول من مايو 2023، تحت عنوان: «مستويات وانتشار المواد العضوية متعددة الفلورين في الثلج في القطب الشمالي»، حيث اكتشف البحث 26 نوعا من هذه الملوثات في ثلج القطب الشمالي من منطقة (Svalbard) النائية والمرتفعة عن سطح الأرض، وهذه الملوثات انتقلت من مصادر متعددة في المدن الحضرية التي تبعد آلاف الكيلومترات.
وجدير بالذكر فإن هذه الملوثات الشائعة ليست موجودة في البيئات الخارجية فحسب، وإنما هي موجودة أيضاً في عقر دارنا في منازلنا، حسب الدراسة الصينية المنشورة في 26 مارس 2021 في مجلة «علوم وتقنية البيئة» تحت عنوان: «المركبات العضوية متعددة الفلور في غبار البيئات الخارجية والداخلية في الصين»، حيث تراوح التركيز في الغبار الخارجي من 105 إلى 321 نانوجراما من هذه الملوثات لكل جرام من الغبار، وفي الغبار في البيئة الداخلية تراوح من 185 إلى 913.
ونظراً إلى واقعية هذه الأزمة الراهنة وتهديدها المباشر للصحة العامة للإنسان والحيوان، فإن بعض حكومات العالم أخذت هذه الأزمة البيئية الصحية على محمل الجد، ووضعت برامج وخططاً للكشف عنها ومكافحتها من ضمن مجموعة «الملوثات العضوية الثابتة والمستقرة» التي وردت في معاهدة ستوكهولم لعام 2009. ومن هذه البرامج على سبيل المثال لا الحصر، «خطة العمل الحكومية» التي أعلنتها الحكومة الفرنسية، إضافة إلى إعلان حكومة بايدن، ممثلة في وكالة حماية البيئة، في 15 فبراير 2023 عن مبلغ 19 مليون دولار لدراسة بعض الملوثات المستجدة مثل مجموعة المركبات العضوية متعددة الفلور في مياه الشرب بولاية إيوا وولايات أخرى.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك