=القرآن الكريم ليس كتابًا في السياسة، وليس كتابًا في العلوم، كما أنه ليس كتابًا في الأحياء، أو الذرة والجغرافيا.. إنه كتاب معجزة وتشريع، وهو المعجزة الوحيدة الباقية والخالدة من معجزات الأنبياء والرسل الكرام، وصاحبه (صلى الله عليه وسلم)، وهو والكتب التي جاءت قبله، المصدق للحق الذي جاءت به، وهو المهيمن على الباطل الذي دسوه في ثناياها، وادعوا أنه من عند الله، وما هو من عند الله تعالى، يقول تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (البقرة / 79). بينما القرآن شرعة ومنهاج، يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا…) (المائدة / 48).
إذًا، فالقرآن الكريم هو معجزة دالة على صدق الرسول في بلاغه عن الله تعالى، وهو كذلك كتاب تشريع ومنهاج عمل للمسلمين لكن هذا لا يعني أبدًا أنه خالٍ من الإشارات إلى مثل هذه العلوم أو بعض منها من مثل قوله سبحانه: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيفك خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت(18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20))(سورة الغاشية)، هذه أسئلة في البحث العلمي، وهي واضحة الدلالة تشير إلى إمكانية البحث العلمي، والاستجابة إلى علوم العصر في ظل غياب النص المباشر والصريح من القرآن الكريم يحتج بها المسلمون على عناية القرآن بمثل هذه العلوم، وامتناع الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن تقديم فهم كامل وشامل للقران الكريم بًسبب أن العقول في وقت نزول القرآن لن تستحمل عطاء القرآن العلمي والإعجاز لأنه لم يأت لعصر دون عصر، بل إنه لكل العصور، ونتلقى منه بقدر ما يتوافق مع الزمان الذي نعيش، ونؤجل ما لم يأت زمانه، ولحال ذلك دون تدبر آياته وسوره، وهذا من أسباب إعجازه وخلوده، وليكون المسلم بهذه الاتساع في الرؤية، والقدرة على النظر في الكون، وإشباع العقل المتفكر، الساعي إلى التعرف على أسرار الوجود، وهذا لم يمنع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أن يقدم تفسيرًا ميسرًا لبعض هذه الآيات استجابة لحاجات المسلمين في عصر نزول القرآن الكريم، وإليكم بعض هذه الإشارات في مجال السياسة ليؤكد اهتمام الوحي المقدس بهذه القضية المهمة التي تدفع المسلمين إلى التعامل مع هذه النصوص التي تتعرض لإدارة شؤون الناس، وها هي ملكة سبأ تكشف لنا من خلال العلاقات السياسية بين دولة سبأ ومملكة نبي الله سليمان الذي أوتي ملكًا لا ينبغي لملك سواه،. هل هناك اهتمام للإسلام أكثر من أن يجمع الله تعالى السياسة والنبوة في رجل واحد، وبهذا يرفع الحق سبحانه من شأن السياسة، وتكون أهلًا لأن يكون لها نسب وثيق بالنبوة، ولنقرأ ما دار بين ملكة سبأ وأهل الرأي والمشورة في قومها، يقول تعالى: (قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون (32)) سورة النمل.
هذه الآيات الجليلات واضحة الدلالة والإشارة إلى نوع من نظام الحكم الذي يسوس به بعض الحكام شعوبهم، وأنه يشبه ما تعارف عليه الناس في العصر الحديث، وهو النظام الدستوري لم تنفرد ملكة سبأ بالحكم، بل أشركت شعبها، وأهل الرأي والمشورة في دولتها، وهي بهذا تشركهم في المسؤولية مما قد تؤول إليه الأمور، وهم اختاروا بإرادتهم الحرة أن يُرجعوا الأمر إليها ثقة منهم أنها سوف تأخذ القرار الصائب، ولقد أخذت الموقف السليم الذي أنقذ شعبها ومملكتها من الدمار خاصة أنها تواجه دولة (مملكة نبي الله سليمان) وهي مملكة لا تقوى أمة من الأمم على مواجهتها لأنها تملك قوة من الجن والإنس.
لقد قررت أن ترسل للملك سليمان بالهدايا، فإن قبل بالهدايا حلت المسألة سلميًا أما إذا رفض، فهي أمام خيارين، الأول: الخضوع لسلطانه، الثاني: محاربته والنتيجة محسومة لصالحه، ودمار لمملكتها وشعبها.
وكانت نتيجة قرارها السياسي الصائب خيرًا وبركة عليها وعلى مملكتها وشعبها.
هذا موقف سياسي أثبتت فيه ملكة سبأ ذكاءها السياسي، ورأيها السديد في معالجة قضية سياسية كان من الممكن بل من المؤكد أن تجلب لشعبها الدمار والذل الذي هما من شيم بعض الحكام الذين حفل بهم التاريخ في القديم والحديث.
ومن المفردات والشواهد السياسية التي يشير إليها القرآن والسنة، والتي تعنى بالناس الشورى والعدل وتحمل الأمانات، قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا) النساء /58.
وأما الشورى، وهي مفردة سياسية جاء النص عليها. صراحة، يقول تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران / 159.
ذلكم هو الإسلام.. وهذا شيء من اهتماماته السياسية وحرصه الشديد، واهتمامه بحريات الشعوب ومصالحهم العامة والخاصة، ثم نسمع الأصوات من هنا وهناك تقول أن ليس للإسلام علاقة بالسياسة، وأن من يريد الإسلام فعليه بالتوجه إلى المساجد، ومن أراد السياسة، فأمامه الجمعيات والأحزاب فلينتم إلي أيٍ منهم شاء، وكأنهم يريدون عزل الإسلام عن الحياة.!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك