العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

عندما كنا عظماء.. إلى الله الملتجى

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

حاصر‭ ‬جيش‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬جيوش‭ ‬الردة‭ ‬‭ ‬وصفه‭ ‬بعض‭ ‬الرواة‭ ‬أنه‭ ‬كالجبال‭ ‬يمور‭ ‬مورًا‭ ‬‭ ‬الجيش‭ ‬الإسلامي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بقيادة‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬معارك‭ ‬حروب‭ ‬الردة،‭ ‬كما‭ ‬تروي‭ ‬بعض‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الموقع‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬كان‭ ‬يحيط‭ ‬بالجيش‭ ‬الإسلامي‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الجيش‭ ‬المرتد‭ ‬جبال‭ ‬شاهقة،‭ ‬وكانت‭ ‬تعرف‭ ‬بجبل‭ (‬أجا‭) ‬وجبل‭ (‬سلمى‭)‬،‭ ‬فأصبح‭ ‬الجيش‭ ‬الإسلامي‭ ‬بين‭ ‬فكي‭ ‬كماشة،‭ ‬ولا‭ ‬فرار،‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬الموت،‭ ‬ولا‭ ‬ثالث‭ ‬للوضع‭ ‬الذي‭ ‬هم‭ ‬فيه‭.‬

فذهب‭ ‬أحد‭ ‬الجند‭ ‬إلى‭ ‬سيف‭ ‬الله‭ ‬المسلول‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يهزم‭ ‬قط،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬يا‭ ‬خالد،‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬المفر‭ ‬والملجأ؟‭ ‬هل‭ ‬إلى‭ ‬سلمى‭ (‬ويقصد‭ ‬الجبل‭) ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬أجا؟

تقول‭ ‬كتب‭ ‬السير‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬دمعت‭ ‬عينا‭ ‬خالد‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬ليس‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬الموقف،‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬السائل،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬إلى‭ ‬أصل‭ ‬النصر‭ ‬وعقيدة‭ ‬الشهادة‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬وإنما‭ ‬فكر‭ ‬بعقله‭ ‬المادي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬إذ‭ ‬وجد‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الفرار‭ ‬أو‭ ‬النصر،‭ ‬وإنما‭ ‬يمكنهم‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬ينجوا‭ ‬بحياتهم‭ ‬عندما‭ ‬يلجؤون‭ ‬إلى‭ ‬الجبال‭ ‬فرارًا‭ ‬من‭ ‬المعركة‭ ‬ومن‭ ‬القتل،‭ ‬لذلك‭ ‬قال‭ ‬خالد‭ ‬بكل‭ ‬عزم‭ ‬وإيمان‭ ‬وثقة‭ ‬بالله‭ ‬سبحانه‭: ‬إنما‭ ‬ننتصر‭ ‬عليهم‭ ‬بهذا‭ ‬الدين،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬سلمى‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬أجا،‭ ‬ولكن‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬الملتجى‭.‬

نحسب‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العقيدة‭ ‬وهذا‭ ‬الإيمان‭ ‬لازمت‭ ‬سيف‭ ‬الله‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬ومعاركه،‭ ‬ففي‭ ‬معركة‭ ‬مؤتة‭ ‬مثلاً‭ ‬كما‭ ‬تروي‭ ‬كتب‭ ‬السير،‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬استشهد‭ ‬القادة‭ ‬الثلاثة‭ ‬الذين‭ ‬عينهم‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ (‬زيد‭ ‬بن‭ ‬حارثة،‭ ‬وجعفر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬وعبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬رواحة‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهم‭ ‬أجمعين‭)‬،‭ ‬وجد‭ ‬ابن‭ ‬الوليد‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬أن‭ ‬جيش‭ ‬المسلمين‭ ‬أمام‭ ‬معضلة،‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬يلقي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬نار‭ ‬المعركة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تبقي‭ ‬ولا‭ ‬تذر،‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬ينسحب‭ ‬بخطة‭ ‬ذكية‭ ‬لا‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الجيش‭ ‬الإسلامي‭ ‬بشيء،‭ ‬فكانت‭ ‬خطة‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬الخطط‭ ‬الذكية‭ ‬جدًا‭ ‬التي‭ ‬أذهلت‭ ‬الروم‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬تذهلهم‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬فقد‭ ‬خرج‭ ‬الجيش‭ ‬الإسلامي‭ ‬بأقل‭ ‬الخسائر‭ ‬الممكنة،‭ ‬ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬يطرح؛‭ ‬من‭ ‬يتخذ‭ ‬قرار‭ ‬الاستمرار‭ ‬أو‭ ‬الانسحاب؟‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬مكيفة‭ ‬ويشاهد‭ ‬المعركة‭ ‬خلف‭ ‬الشاشات‭ ‬الملونة‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬يجالد‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬المعركة‭ ‬ويستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بحساباته‭ ‬ويقدر‭ ‬مراكز‭ ‬ونقاط‭ ‬قوته‭ ‬ومراكز‭ ‬ونقاط‭ ‬ضعف‭ ‬العدو‭ ‬وقوته؟‭ ‬حتمًا‭ ‬نعرف‭ ‬الإجابة،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬كونه‭ ‬القائد‭ ‬العام‭ ‬للدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬فهِم‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬فقال‭ ‬عن‭ ‬الجيش‭ ‬كله‭: ‬‮«‬لَيْسُوا‭ ‬بِالْفُرَّارِ،‭ ‬وَلَكِنَّهُمُ‭ ‬الْكُرَّارُ‭ ‬إِنْ‭ ‬شَاءَ‭ ‬اللَّهُ‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬خالد‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬لقب‭ ‬سيف‭ ‬الله‭ ‬المسلول‭. ‬

وقد‭ ‬يجد‭ ‬البعض،‭ ‬وخاصة‭ ‬الذين‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬ومعاركه‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الدعوة‭ ‬بمنظار‭ ‬علماني‭ ‬مادي‭ ‬بحت‭ ‬أن‭ ‬الانسحاب‭ ‬في‭ ‬مؤتة‭ ‬يناقض‭ ‬فكرة‭ ‬وعقيدة‭ (‬إلى‭ ‬الله‭ ‬الملتجى‭)‬،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬ونقول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬التناقض‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬فكرهم‭ ‬المادي‭ ‬فقط،‭ ‬فالفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬الجهاد‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬التنفيذ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬الاستعداد‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬قوة،‭ ‬فليس‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬المسلم‭ ‬أن‭ ‬يعد‭ ‬ويستعد‭ ‬ويفكر‭ ‬ويؤجل‭ ‬ويناقش‭ ‬ويتردد‭ ‬ويتخاذل‭ ‬ويحبط‭ ‬مرة‭ ‬ويتراجع‭ ‬مرات،‭ ‬ويردد‭ ‬‮«‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الانتصار‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬غير‭ ‬المواتية،‭ ‬فالعدو‭ ‬يمتلك‭ ‬من‭ ‬السلاح‭ ‬والعتاد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬قبل‭ ‬لنا‭ ‬به‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يستعد‭ ‬ويتوكل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وحينئذ‭ ‬هو‭ ‬الملجأ‭ ‬والمنتصر،‭ ‬وهذا‭ ‬مصداقًا‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الأنفال‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬60‭ (‬وَأعِدُّوا‭ ‬لَهُم‭ ‬مَّا‭ ‬اسْتَطَعْتُم‭ ‬مِّن‭ ‬قُوَّةٍ‭ ‬وَمِن‭ ‬رِّبَاطِ‭ ‬الْخَيْلِ‭ ‬تُرْهِبُونَ‭ ‬بِهِ‭ ‬عَدُوَّ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬وَعَدُوَّكُمْ‭ ‬وَآخَرِينَ‭ ‬مِن‭ ‬دُونِهِمْ‭ ‬لَا‭ ‬تَعْلَمُونَهُمُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬يَعْلَمُهُمْ‭ ‬وَمَا‭ ‬تُنفِقُوا‭ ‬مِن‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬فِي‭ ‬سَبِيلِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬يُوَفَّ‭ ‬إليْكُمْ‭ ‬وَأنتُمْ‭ ‬لَا‭ ‬تُظْلَمُونَ‭)‬،‭ ‬والقوة‭ ‬هنا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬البال،‭ ‬مثل‭: ‬القوة‭ ‬التقنية،‭ ‬والنفسية،‭ ‬والإيمانية‭ ‬والروحانية‭ ‬والعقلية‭ ‬وكل‭ ‬شيء،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬تأتي‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬والسلاح‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬

‭(‬إلى‭ ‬الله‭ ‬الملتجى‭) ‬كان‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬مبدأ‭ ‬وموقف‭ ‬السيدة‭ ‬هاجر‭ ‬والدة‭ ‬سيدنا‭ ‬إسماعيل‭ ‬عليهما‭ ‬السلام،‭ ‬وكلنا‭ ‬نعرف‭ ‬تلك‭ ‬القصة،‭ ‬عندما‭ ‬أخذهم‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬إلى‭ ‬مكة،‭ ‬فتركهما‭ ‬في‭ ‬مكانٍ‭ ‬لا‭ ‬ماء‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬طعام،‭ ‬ثمّ‭ ‬رجع‭ ‬والحزن‭ ‬يتفطر‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬عليهما‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ويجب‭ ‬ألا‭ ‬نتصور‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬سهلة‭ ‬وبسيطة،‭ ‬فأن‭ ‬يترك‭ ‬المرء‭ ‬ابنه‭ ‬البكر‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬وطعام‭ ‬ولا‭ ‬ماء‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬شجر،‭ ‬وإنما‭ ‬صحراء‭ ‬ورمال‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬مبدأ‭ (‬إلى‭ ‬الله‭ ‬الملتجى‭) ‬كانت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬لذلك‭ ‬سجل‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬إبراهيم‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬37‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬نفسه‭: (‬رَّبَّنَا‭ ‬إنِّي‭ ‬أسْكَنتُ‭ ‬مِن‭ ‬ذُرِّيَّتِي‭ ‬بِوَادٍ‭ ‬غَيْرِ‭ ‬ذِي‭ ‬زَرْعٍ‭ ‬عِندَ‭ ‬بَيْتِكَ‭ ‬الْمُحَرَّمِ‭ ‬رَبَّنَا‭ ‬لِيُقِيمُوا‭ ‬الصَّلَاةَ‭ ‬فَاجْعَلْ‭ ‬أفْئِدَةً‭ ‬مِّنَ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬تَهْوِي‭ ‬إلَيْهِمْ‭ ‬وَارْزُقْهُم‭ ‬مِّنَ‭ ‬الثَّمَرَاتِ‭ ‬لَعَلَّهُمْ‭ ‬يَشْكُرُونَ‭).‬

ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وحتى‭ ‬السيدة‭ ‬هاجر‭ ‬عليها‭ ‬السلام‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬وخاصة‭ ‬عندما‭ ‬علمت‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬كان‭ ‬مأمورًا‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر‭ ‬فقالت‭: ‬‮«‬رَضِيتُ‭ ‬باللَّهِ‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬عليه‭ ‬سيدنا‭ ‬نوح‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬عندما‭ ‬صنع‭ ‬السفينة‭ ‬وركبها،‭ ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬المبدأ‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬مطمئنًا‭ ‬حال‭ ‬دخوله‭ ‬النار،‭ ‬ونجد‭ ‬أن‭ ‬نفس‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬كان‭ ‬حاضرًا‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬سيدنا‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬عندما‭ ‬وقف‭ ‬أمام‭ ‬البحر‭ ‬وكان‭ ‬جيش‭ ‬فرعون‭ ‬في‭ ‬أثره،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬وأمامه‭ ‬مسؤولية‭ ‬عظمى؟

وكذلك‭ ‬سيدنا‭ ‬أيوب‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬وسيدنا‭ ‬زكريا‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬حينما‭ ‬نظر‭ ‬بفكره‭ ‬المادي‭ ‬البحت‭ ‬لحمل‭ ‬زوجته‭ ‬العاقر،‭ ‬فقال‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬مريم‭ ‬‭ ‬الآيات‭ ‬8‭ ‬و9‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬زكريا‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭: (‬قَالَ‭ ‬رَبِّ‭ ‬أنَّى‭ ‬يَكُونُ‭ ‬لِي‭ ‬غلام‭ ‬وَكَانَتِ‭ ‬امرأتي‭ ‬عاقرا‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬مِنَ‭ ‬الكبر‭ ‬عتيا‭ ‬قَالَ‭ ‬كَذَلِكَ‭ ‬قَالَ‭ ‬رَبُّكَ‭ ‬هُوَ‭ ‬عَلَيَّ‭ ‬هَيِّن‭ ‬وقد‭ ‬خلقتك‭ ‬مِن‭ ‬قبل‭ ‬ولم‭ ‬تَكُ‭ ‬شيئا‭)‬،‭ ‬وانتهى‭ ‬الموضوع،‭ ‬فعندما‭ ‬يشاء‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬فلا‭ ‬جدال‭ ‬ولا‭ ‬نقاش‭.‬

إن‭ ‬النظرة‭ ‬المادية‭ ‬للأمور‭ ‬والحياة‭ ‬تجعل‭ ‬العقل‭ ‬والنفس‭ ‬تقف‭ ‬حائرة‭ ‬أمام‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مصاعب‭ ‬الدنيا،‭ ‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يطغى‭ ‬البشر،‭ ‬فرب‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يأخذ‭ ‬حق‭ ‬العامل‭ ‬أو‭ ‬الموظف‭ ‬أيًا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحق،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬علاوة‭ ‬أو‭ ‬إجازة‭ ‬بسيطة،‭ ‬فإنه‭ ‬يظلم،‭ ‬والرجل‭ ‬الذي‭ ‬يظلم‭ ‬زوجته‭ ‬وأولاده،‭ ‬وكذلك‭ ‬الزوجة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تراعي‭ ‬حرمة‭ ‬بيت‭ ‬الزوجية‭ ‬فإنها‭ ‬ظالمة،‭ ‬فقد‭ ‬أخلت‭ ‬بالواجبات‭ ‬والحقوق،‭ ‬والأغنياء‭ ‬عندما‭ ‬يقومون‭ ‬بالتلاعب‭ ‬بالأسعار‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالمواطن‭ ‬البسيط،‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعتبروا‭ ‬من‭ ‬الظالمين،‭ ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬كثيرة،‭ ‬فيقف‭ ‬الإنسان‭ ‬البسيط‭ ‬حائرًا‭ ‬منكسر‭ ‬الرأس‭ ‬والظهر،‭ ‬منكسر‭ ‬الوجدان‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬فلا‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬وإلى‭ ‬أين‭ ‬يذهب؟‭ ‬وربما‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يغلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬باب‭ ‬غرفته‭ ‬أن‭ ‬يبكي‭ ‬ويبكي‭ ‬بحرقة‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬الضعيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬قوي،‭ ‬متين،‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يرفع‭ ‬ملف‭ ‬القضية‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬‮«‬اتقوا‭ ‬الظلم،‭ ‬فإن‭ ‬الظلم‭ ‬ظلمات‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬النووي‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬‮«‬هو‭ ‬على‭ ‬ظاهره؛‭ ‬فيكون‭ ‬ظلمات‭ ‬على‭ ‬صاحبه‭ ‬لا‭ ‬يهتدي‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬سبيلاً،‭ ‬ويحتمل‭ ‬أن‭ ‬الظلمات‭ ‬هنا‭ ‬الشدائد،‭ ‬وبه‭ ‬فسروا‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬قل‭ ‬من‭ ‬ينجيكم‭ ‬من‭ ‬ظلمات‭ ‬البر‭ ‬والبحر‭) ‬أي‭ ‬شدائدهما،‭ ‬ويحتمل‭ ‬أنها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬الأنكال‭ ‬والعقوبات‮»‬‭.‬

ونحن‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬ندعو‭ ‬إلى‭ ‬الاستكانة‭ ‬والسلبية‭ ‬والخور،‭ ‬ولكننا‭ ‬نقول‭ ‬إنه‭ ‬عندما‭ ‬تعجز‭ ‬عدالة‭ ‬الأرض‭ ‬عن‭ ‬أخذ‭ ‬حق‭ ‬الإنسان‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي‭ ‬وهذا‭ ‬يحدث‭ ‬كثيرًا،‭ ‬فإن‭ ‬العدالة‭ ‬لا‭ ‬تضيع،‭ ‬والحق‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬صاحبه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اليوم‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬وأن‭ ‬تعود‭ ‬الحقوق‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وهذه‭ ‬حتمية‭ ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬فيها،‭ ‬فالأيام‭ ‬أرتنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

واليوم‭ ‬يتجلى‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬وقفت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أمام‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬رافضةً‭ ‬ورافعةً‭ ‬حق‭ ‬نقض‭ ‬الفيتو‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬ولبنان،‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬موقف‭ ‬الطغاة‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التعامل‭ ‬معه،‭ ‬فقوة‭ ‬الأرض‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تقف‭ ‬أمام‭ ‬العنجهية‭ ‬الأمريكية‭ ‬والصهيونية‭ ‬ولا‭ ‬أمام‭ ‬قوتها‭ ‬المادية‭ ‬وأسلحتها‭ ‬المتطورة‭ ‬ولا‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬علمانية‭ ‬مادية‭ ‬بحتة،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬الصليبية‭ ‬الصهيونية‭ ‬هي‭ ‬القوة‭ ‬المطلقة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬وحتى‭ ‬نكون‭ ‬أكثر‭ ‬دقًة‭ ‬وموضوعية،‭ ‬نقول‭: ‬نعم،‭ ‬إنهم‭ ‬يمتلكون‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نمتلك‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬مادية‭ ‬وتكنولوجية،‭ ‬ولكن‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فحتى‭ ‬فرعون‭ ‬الذي‭ ‬طغى‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬موته‭: (‬قَالَ‭ ‬آمَنتُ‭ ‬أنَّهُ‭ ‬لَا‭ ‬إلَهَ‭ ‬إلَّا‭ ‬الَّذِي‭ ‬آمَنَتْ‭ ‬بِهِ‭ ‬بَنُو‭ ‬إسْرَائِيلَ‭ ‬وَأنَا‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمُسْلِمِينَ‭). ‬

وربما‭ ‬نتعلم‭ ‬الدرس‭ ‬واضحًا‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬دار‭ ‬بين‭ ‬المجاهد‭ ‬عمر‭ ‬المختار‭ ‬وأصحابه،‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬أحدهم‭: ‬إيطاليا‭ ‬تملك‭ ‬طائرات‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نملكها‭. ‬قال‭ ‬المجاهد‭ ‬الصابر‭: ‬أتحلق‭ ‬فوق‭ ‬العرش‭ ‬أم‭ ‬تحتهُ؟‭ ‬فقالوا‭: ‬تحته‭. ‬فقال‭: ‬مَن‭ ‬فوق‭ ‬العرش‭ ‬معنا‭ ‬فلا‭ ‬يخيفنا‭ ‬ما‭ ‬تحته‭.‬

يقول‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬النمل‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬62‭ (‬أمَّن‭ ‬يُجِيبُ‭ ‬الْمُضْطَرَّ‭ ‬إذَا‭ ‬دَعَاهُ‭ ‬وَيَكْشِفُ‭ ‬السُّوءَ‭ ‬وَيَجْعَلُكُمْ‭ ‬خُلَفَاءَ‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬أَإلَهٌ‭ ‬مَّعَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬قَلِيلًا‭ ‬مَّا‭ ‬تَذَكَّرُونَ‭). ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬فيها‭ ‬أصحاب‭ ‬الفكر‭ ‬العلماني‭ ‬المادي‭ ‬الذي‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الجهاد‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬فكر‭ ‬خاطئ‭.‬

 

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا