بدأ شغفي بالقراءة، ومحاولة التغلب على شح الكتب الثقافية، بدأ ذلك مبكرًا، وكنت وأنا طالب في المدرسة الثانوية أسعى إلى الحصول على الكتب بأية وسيلة ممكنة، وكان ابن خالتي إبراهيم عاشير (رحمه الله تعالى) لديه مكتبة صغيرة جدًا بها بعض الكتب، وكنت أستعير بعضها، وبعد أن أنتهي من قراءتها أعيدها إليه، وأستعير غيرها، وهكذا حتى بدأت البحث عن مصادر أخرى للكتب، ولما كان شراء الكتب كمصدر آخر يحتاج إلى مال، وليس لدي مصدر للمال بدأت مع أول راتب تسلمته حين بدأت حياتي العملية أحرص على زيارة المكتبات وشراء الكتب منها، وهكذا بدأت أخطو الخطوة الأولى في طريق الآلاف من خطوات في سبيل تكوين مكتبتي الخاصة التي يكون شراء الكتب من جيبي الخاص هو المصدر الرئيس في جمع الكتب وإشباع نهمي للقراءة، وبدأت العمل مبكرًا، وكان عمري يومئذٍ لا يتجاوز التسعة عشر عامًا، حيث بدأت العمل في البنك الشرقي (eastren bank)، وكان ذلك في عام (1962م)، ثم تغير اسم البنك إلى تشارترد بنك (chartered bank).
ولقد سررت غاية السرور حين تسلمت أول راتب لي من البنك لأنه فتح لي بابًا، ومصدرًا لشراء الكتب، وإشباع نهمي إلى القراءة التي أسهمت، وبشكل أساسي في تشكيل وعيي الثقافي، وعوضتني عن إكمال دراستي الجامعية بسبب أني كنت تقريبًا العائل الوحيد للعائلة بعد خروج والدي (رحمه الله تعالى) إلى التقاعد، ولَم يكن قد بدأ العمل بقانون التقاعد في ذلك الوقت.
بدأت ملامح مكتبتي تتشكل، وتنمو شيئًا فشيئًا، وبدأ التوجه الإسلامي، والانشغال بقضايا الإسلام، وما يقال عنه من أباطيل الخصوم وحقائقه الساطعة الباهرة كما يقول الأستاذ والمفكر الكبير عباس محمود العقَّاد في كتابيه، الأول: (ما يقال عن الإسلام)، والثاني: (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) والذي بدأ به المؤتمر الإسلامي سلسلة مطبوعاته، وكان يرأسه في ذلك الوقت السيد أنور السادات الذي صار بعد ذلك رئيسا لجمهورية مصر العربية.
كان تسلمي أول راتب من عملي في البنك الشرارة الأولى التي اشتعلت منها الشعلة الأولى في ثقافتي العامة التي حققت شيئًا من مفهوم الثقافة العامة الذي عَرَّفوه بقولهم: «معرفة شي عن كل شي»، أما التعريف المشهور عن العلم (أي التخصص) فهو قوله: «معرفة كل شيء عن شيء واحد».
لم يقتصر فهمي للثقافة على هذا المعنى، انطلقت من المعنى العام للثقافة إلى المعنى المتخصص حيث جعلت من المعنى العام للثقافة وسيلة لبلوغ الغاية أو شيء قريب منها حين جعلت الانشغال بالإسلام وقضاياه تخصصي الذي أسعى جاهدًا إلى إشباع نهمي منه، ولكن في إطار المعنى العام والمشهور للثقافة، فصرت حين أتحدث عن الإسلام يظنون أني متخصص، وعندما أحاول أن أتحدث في شتى الموضوعات يعتقدون أني مثقف، هكذا يظنون -مجرد ظن- وأسأل الله تعالى أن أكون خيرًا مما يظنون، وهكذا حاولت أن أجمع بين المعنى العام للثقافة، والمعنى الخاص لها.
وهكذا صار الإسلام والدفاع عنه، ورد سهام خصومه عنه شغلي الشاغل، وهمي الوحيد، وبذلت جهدي الجهيد في التسلح بأسلحة العلوم والثقافة، وتتبع ما ينشر عن الإسلام، وما يثار حوله من خصومه ومحبيه، وأن أحاول نشر فضائله، والذود عنه ما وسعتني المحاولة، وأن أستثير حمية الكتاب الذين أتصل بهم ويتصلون بي في أن يكون الإسلام والدفاع عن قضاياه هو غايتنا التي نسعى إلى تحقيقها.
إن فضائل الإسلام على أصحاب الملل الأخرى لا تعد ولا تحصى، ويكفي أن يكون كتابه المعجز - القرآن الكريم - هو الميزان الذي لا يزل ولا يضل تعرض عليه كتبهم التي أنزلها الله تعالى على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام يقر حقها، وينفي باطلها الذي كتبوه بأيديهم وقالوا زورًا وبهتانًا أنه من عند الله وهذا كذب وافتراء محض، قال تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (البقرة / 79)، فيكفي الإسلام شرفًا، ورفعة أن يكون كتابه هو الحكم العدل ترفع إليه الكتب التي أنزلت على أنبياء الله تعالى، فينفي باطلها ويثبت حقها، ويكفيه كذلك شرفًا ورفعة احتفاؤه بأنبياء الله تعالى ورسله الكرام، فيثني عليهم، ويرد التهم الباطلة التي ألصقها أتباعهم بهم دون وجه حق.
بدأت مكتبتي تنمو نموًا طبيعيًا، وبدأت أشجارها المثمرة تتدلى ثمارها، ويطيب قطوفها على هيئة كتب ومقالات، وشعرت بأني صرت إنسانًا آخر يهتم بالإسلام كغاية شريفة، ويسعى جاهدًا إلى أن يستنطق الكتب، ويجعلها شاهدة له لا شاهدة عليه، وسوف نسأل يوم القيامة ليس عن عدد الكتب التي قرأنا، ولكن سوف نسأل عن الثمار التي أثمرت هذه الكتب، وعن ما نشرت من حق، وعن ما ردت وفضحت من باطل.
كان الوالد (رحمه الله تعالى) يستكثر عليَّ مبالغتي في شرائي للكتب، وكنت على يقين أن ما أفعله ليس فيه أدنى مبالغة ولكنه محاولة لإشباع نهمي وشغفي للقراءة، وكان يقول لي؛ إن جدك يوسف بن حسن البنفلاح (رحمه الله تعالى) يهتم بالكتب ويحتفظ بالقليل منها، وأنت لست كذلك، فكنت أقول له: إن زمني ليس يشبه زمن جدي بسبب تقدم وسائل الطباعة والنشر، ويسكت إما اقتناعًا أو يأسًا من أن أغير عادتي التي اعتدت عليها، وكنت احترامًا لمشاعره أترك الكتب التي أشتريها في السيارة، وكنت تقريبًا أزور المكتبات مرة أو مرتين، وكنت أتركها في السيارة حتى يأوي إلى فراشه، فإذا نام تسللت سرًا حتى أحضرها من السيارة، وأبدأ بتقليب صفحاتها، واختيار ما يجب قراءته في حينها وما يمكن تأجيل قراءته إلى حين آخر.
وداومت على التردد على المكتبات واقتناء الكتب حتى ضاقت بها غرفتي، فطلبت من زوج أختي أن يصنع لي غرفة من الخشب ألحقتها بغرفة النوم، وحين اشتريت بيتًا لي بنيت غرفة حجمها كبير في الطابق الثالث من البيت، ثم دعت الحاجة إلى التوسع، فطلبت مني زوجتي أن أتصرف في الكتب لأنهم في حاجة إلى غرفة المكتبة لسكن ابنتي، فاحترت ماذا أفعل بهذا العدد الضخم من الكتب.. حاولت أن أهديها إلى الجمعية الإسلامية، فلم يقبلوها بحجة أن لديهم مكتبة لا يتردد عليها أحد، ثم حاولت مع الإخوة في جمعية الإصلاح، فاعتذروا هم أيضًا، فاتصلت بالأخ الأستاذ منصور سرحان، المسؤول عن المكتب العامة، فوافق ولكن أخبرني أنه لن يخصص مكانًا واحدًا لكل هذه الكتب الكثيرة، فرأيت أنه بهذا سوف تضيع معالمها، وتختفي الميزة التي تمتاز بها على غيرها من المكتبات الخاصة بهذا العدد الكبير من الكتب التي تعكس اهتمام صاحبها، وتميز مكتبته عن غيرها من المكتبات، حتى ساق الله تعالى إلَيْ ابن أخي جهاد الذي كان وقتها يبني صالة كبيرة، فعرض عليّ أن ينقلها إليها، فأحسست أن حملًا ثقيلًا قد ألقاه عن كاهلي، وصرنا بعد ذلك نتردد على المكتبة مرتين كل شهر نتجاذب أطراف الحديث، ونناقش بعض القضايا التي تدور حول الإسلام وقضاياه.
هذه هي مكتبتي، وهذه هي العقبات التي اعترضت سبيلها: جمعًا وإنشاءً، وحماية، وإحساسًا بالمسؤولية التي تركتها في أعناق العائلة، وأسأل الله تعالى أن يعينهم عليها، وييسر لهم السبيل إلى المحافظة عليها، واستثمارها: قراءةً، وحفظا، واستفادة، وهو تعالى ولي ذلك والقادر عليه سبحانه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك