رحِم الله الوالد والعم العزيز (بويوسف) محمد عبدالغفار العَلَوي، صاحب الأفضال الكثيرة والسجايا الحميدة، فقد كانت حياته مليئة بالدروس والمواقف التربوية لجميع من عرفه وخالطه، كيف لا وهو ذو الشخصية الفذَّة الفريدة في العديد من المجالات. لقد كان -رحِمَه الله- ملء السمع والبصر، وصاحب صولات وجولات في أروقة الهيئة العامة لصندوق التقاعد، التي أُنشئت بعدما كانت مكتباً معنياً بشؤون التقاعد بوزارة المالية والاقتصاد الوطني وكان مقره حينها بدار الحكومة.
وبعد أنْ عُيِّن مديراً عاماً للهيئة كونه متمرساً وخبيراً في التقاعد أسهم أيُّما مساهمة فاعلة في تطويرها وتنميتها على مدى فترة من الزمن، يُسنِده في ذلك مجلس إدارتها برئاسة سعادة السيد إبراهيم عبدالكريم محمد وزير المالية والاقتصاد الوطني الأسبق، ثم كوكبة العاملين في الهيئة الذين سخروا جهودهم لإنجاح مسيرتها، حتى صارت صرحاً شامخاً يشار إليه بالبنان، وتضمنت تلك المساهمة بشكل أساسي في اقتراح التشريعات القانونية والأنظمة التقاعدية، وفي تنمية أموالها ومدخراتها واستثماراتها على الوجه السليم والمطلوب، من دون إغفال بناء النظام الإداري والهياكل التنظيمية، وتوضيح القوانين واللوائح للعاملين بالهيئة ولعموم الخاضعين للقانون والمعنيين به. ومن واقع هذه الاعتبارات كان همُّه الأول والأخير هو المواطن الخاضع للقانون وحِفظ حقوقه التقاعدية والمستحقين عنه، ولن نجاوز الحقيقة إذا قلنا إنه أفنى زهرة شبابه مخلصاً للوطن وعاملاً لمصلحة المواطن.
ومما أُثِر عنه أنه كتب بخط يده على قصاصة من الورق عبارة (لو دامت لغيرك لَما وصلت إليك) ووضعها نصب عينيه على مكتبه. وقد فاجأني في مرة من المرات – عندما كنت أعمل بالهيئة – بأنْ أعطاني درساً في التوكل على الله الرَّزَّاق، إذ قال لي إن لله سنناً لا تتغير ولا تتبدل، والسعيد مَن اكتشفها وأعدَّ نفسه لها، فأنا مستعد لليوم الذي أغادر فيه هذا الكرسي وأسَلِّمه لمن بعدي، وقد صدق ووفى بما وعد، بل إنه خطَّط ليوم تقاعده، حيث تسَلَّم الراية خلَفُه الأستاذ راشد إسماعيل المير إثْر صدور مرسوم تعيينه في منصب مدير عام الهيئة أواخر عام 2001. ولعل مما يشار إليه أنه كان مستشاره المخلص فترة من الزمن، ينهل من خبرته الطويلة في المجال التقاعدي.
ولقد كان -رحمه الله- متواضعاً لدرجة أنَّ مَن لا يعرفه لا يميزه عن غيره من المسؤولين، فقد كان يهتم بالعمل وجودته، ولا يلتفت إلى المظاهر، وكان يحرص على حضور جميع مناشط اللجنة الاجتماعية بالهيئة، بل ويرعاها ويتابعها، وكان يتواصل مع الصغير قبل الكبير من العاملين بالهيئة بمختلف درجاتهم ومسمياتهم، ومع الخفير قبل الوزير، كما كان يتواصل مع الناس عموماً ويحرص على مشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، وهو ما أكسبه حب جميع من عرَفه وخالطه.
ولِما حباه الله تعالى من منصب ومسؤولية، فقد كان يعطف على الضعفاء والمحتاجين، ويراعي حق الله فيهم، وكان حنوناً وأبا للجميع، بحيث إنه لا يملك مَن يخالطه إلا أنْ يحبه، وكذلك فقد كان -رحمه الله- كريماً مع الجميع من أهل وأحباب وجيران ورؤساء ومرؤوسين، فلم يكن يرد سائلاً ولا يتوارى عن أحد، بل تجده هو الذي يسعى جاهداً لقضاء حوائج الناس ومتابعتها حتى تنجز بمشيئة الله تعالى.
وكان مما تميز به أيضاً الإيمان بقدرات الشباب، وتمكينهم من استغلال طاقاتهم وعلمهم في خدمة الوطن، فكان يقدِّر العلم وتوظيفه للنفع العام، عبر استقطابه أصحاب التخصصات المتميزة والخبرات الملموسة للعمل بالهيئة، والاستفادة من خبراتهم العملية للخروج بأفضل النتائج للارتقاء بعمل الهيئة، حتى امتلأت الهيئة في عهده بالكفاءات ولاسيما في بدايات العمل الإلكتروني، وفي ظل ذلك سرعان ما صارت الهيئة تعتمد على العديد من الأنظمة والبرمجيات الحديثة والرفيعة التي مكَّنت من تسريع وتيرة العمل ودقته وإنجازه إلى درجة كبيرة، وكل ذلك كان ممزوجاً بخبرته التخصصية الطويلة. وإلى جانب ذلك كان يحرص على ابتعاث الموظفين الشباب للدراسة والتدريب من أجل تطوير الذات والتمكن من التحصيل العلمي والعملي النافع والمجدي، كما عُرِف عنه مهارته في اكتشاف الطاقات وتوظيفها للعمل بكفاءة وفاعلية، ومثال ذلك أنه اختار مَن توَسَّم فيهم القدرة على التعبير والكتابة فانتدبهم للعمل في مجلة (التقاعد) التي أصدرتها الهيئة والتي كانت مرجعاً للباحثين والمتخصصين في مجال التقاعد والتأمين الاجتماعي، وكان لي شخصياً شرف المشاركة في هذه اللجنة مدة خدمتي في الهيئة.
هذا وبالإضافة إلى إيمانه بالطاقات الشبابية، فإنه كان يعطي المرأة العاملة فرصتها في تحقيق ذاتها إيماناً منه بأن النساء شقائق الرجال، ومنهن اللاتي كن يحملن على عاتقهن عبء الكسب الحلال والتكفل بإعالة العائلة عند غياب الرجل فيها أو لعجزه. نعم كان يقدِّر بحق هذه الفئة في المجتمع، وقد ذكر لي أكثر من مرة أنه يفكر في طريقة وأسلوب راق لتكريم المرأة المضَحية التي قدَّمت أبناءها ومَن تعول على احتياجاتها الخاصة، في زمن عزَّ فيه الناصر والمعين. وهذا ولا ريب درس بليغ في الإنسانية من صاحب قلب كبير.
ولا يفوتني هنا أن أشيرَ إلى ما عُرِف عن هذه الشخصية الفريدة من أمانة وشرف، ونظافة يد ونقاء كسْب، وهو ما يشهد به القاصي والداني والمخالف والصديق، فهو الذي حفِظ الأمانة على أكمل وجه وكانت تحت تصرفه الملايين من أموال المستحقات التقاعدية، فكان بحق القويَّ الأمين الذي سلَّم الأمانة من دون أنْ تنقص فلساً واحداً، ولم يخَفْ في الله لومة لائم، وكان عفيف النفس عن إغراءات الدنيا راضياً بما قسم الله له من رزق حلال. وقد لفت نظري ما انتهجه من أسلوب جميل في طريقة الاحتفال باليوبيل الفضي لتأسيس الهيئة، وذلك عندما اجتمع بالمسؤولين بها وقال لن أضيِّع الأموال في احتفالات فيها بذخ وإسراف كما يفعل الآخرون، بل سأحتفل بهذه المناسبة بتدوين تاريخ العمل بالهيئة من خلال إصدارات علمية عن مختلف شؤون وأعمال وخدمات الهيئة بحيث تكون مرجعاً تخصصيا للباحثين والمهتمين في المجال التقاعدي والتأميني، وقد أوفى بوعده حيث كانت الهيئة في ذلك الوقت كخلية نحل، الجميع يبحث ويدوِّن ويكتب ويصيغ، وعلى رأسهم قدوتهم.. مديرهم العام، فقد حمل الراية بنفسه ليكون هو القدوة لهم جميعاً فألّف كتابه القيّم (التقاعد البحريني بين الأصالة والمعاصرة) وجاء في 450 صفحة وثقت بدايات العمل الحكومي والتأميني في المملكة. وبهذا الأسلوب الراقي والمتميز أثرى المكتبة التأمينية بكمٍّ من المؤلفات القَيِّمة، لتكون مراجع للمتخصصين في المستقبل، وكان لي شرف المشاركة في هذا المشروع الرائد حيث أكرمني الله بتدوين كتاب (السياسات الإدارية والمالية) بمشاركة أختي الفاضلة الزميلة دلال عبدالعزيز بوحجي (أم عبدالعزيز) رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
ودليلاً على مدى فهمه واستيعابه لجوانب دقيقة ومعقدة في الحسابات، فقد أعلمني، رحمه الله، عن اكتشافه سر إحدى المعادلات في الحسابات التقاعدية التي شغلت باله وأرَّقت نومه وهو يحاول فك رموزها، وذلك من أجل تغييرها وتطويرها لتتناسب مع معطيات العصر. وأنه بعد تفكير عميق ولعدة أسابيع هو والمستشار القانوني للهيئة فتح الله عليه واكتشف أن القسمة على العدد 12 إنما وضعه المشرِّع في حينه لأنَّ كسور العُمْلَة سابقاً كان (آنة) وأنه كان يقسم على (12 آنة) أي ما يعادل ثلاثة أرباع الروبية في ذلك الوقت.
وعندما حطَّ رحاله وتقاعد عن العمل رسمياً وتخلص من جميع الألقاب والمسؤوليات، آثر التجرد من حظوظ الدنيا، وزهد فيما عند الناس، ورغب بما عند الله تعالى، فقرر عدم الظهور الإعلامي، وكنت حينها أحاول إقناعه بقبول الالتقاء مع الأخ العزيز جمال زويد للحديث معه في برنامجه الرائد والرائع (في ذاكرة الأحياء) لكنه كان يمتنع ويقول ارجِع إلى كتابي فقد كتبت فيه كل ما أريد قوله.
هذا ونحسب أن الله جل شأنه قد أكرم والدنا العزيز بويوسف، رحمه الله، بحسن الخاتمة وحُسْن الظن بالله، حيث زرته قبل أسابيع في مسجد لوتاه بالبسيتين الذي اعتاد الصلاة فيه حتى آخر حياته، فسلمت عليه وقلت له جزاك الله عنّا خير الجزاء على ما قدمته لنا من رعاية وعناية وتقويم حتى قوِيَ عودُنا، فنظر إليَّ نظرةً ثاقبة وقال بثقة وثبات إنني دعوت الله تعالى أن أكون من أهل الجنة، وأن الله تعالى لن يخيِّب أملي هذا. وفي الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي” رواه مسلم.
وهذا غيضٌ من فيض من سيرة ذلك الرجل المبارك، وهذه دروس وعبر تستحق أن تكون نبراساً لكل من تولى مسؤولية أو أصبح رئيساً على مجموعة من الموظفين، فرحِم الله العم العزيز بويوسف وآجره على كل ما قدم للبحرين، ونسأل الله تعالى أن يتقبل دعاءه وأن يرزقه الفردوس الأعلى من الجنة، من غير حساب ولا سابقة عذاب، … آمين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك