لست وحدي، ولكني أثق بأن الأكثرية منّا تأسره لفتات الوفاء والإنسانية التي يشاهدها بين الآخرين أو تحدُث له من أحبّته، وتتزايد قيمة هذه اللفتة إن جاءت من قبل رموز كبرى لها مكانتها وتعتبر قدّوة يُحتذى بها من قبل الآخرين.
واسمحوا لي - خارجاً عن النص ومن باب التشبيه على صعيد المثال المعاصر للتذكير بهشاشة بعض الفئات من الجيل - التذكير بالدور الذي يلعبه مشاهير وسائل التواصل الاجتماعية باعتبارهم مثالا وقدوة لفئة من المجتمع وحجم انقياد الجماهير لسلوكهم ومدى تأثيرهم على فكرهم وسلوكهم.
ولكن موضوعي أكبر وأكثر رُقيّاً من مثالي السابق، باعتباره على مستوى دول وقيادات وليس على مستوى الأفراد، فقد تشرفت مؤخراً بدعوة من السفارة البريطانية لحضور احتفاليتها بمناسبة ذكرى مولد الملك تشارلز الثالث ملك بريطانيا.
وأعلم وتعلمون بحجم العلاقات الوطيدة بين المملكة المتحدة وبين مملكة البحرين، إذ يجمعهما تاريخ عريق بدأ منذ مطلع القرن التاسع عشر، قامت فيها بريطانيا العظمى بتوفير الحماية لمياه الخليج وللدول الواقعة على ضفافة وفي مقدمتها البحرين، ثم توطدت تلك العلاقات لتتوج باتفاقية صداقة وعلاقات اقتصادية، سياسية واجتماعية عميقة بين الحكومتين وشعبيهما.
وعلى صعيد العلاقات الشعبية، ما زلت أذكر جدّي (بوعيسى) رحمه الله وهو يخاطبنا بلغته الإنجليزية التي ينطقها بلكنة أهلها والتي تعلمها خلال فترة عمله في (اليبل) وفقاً لتعبيره، حيث كان أحد الذي تركوا مهنة الغوص ليلتحق ضمن قائمة العاملين في مجال النفط في الثلث الأول من القرن الماضي، وأذكر حديثه عن إنسانية وانضباط مسؤولهم الإنجليزي حينها.
ولعل الحديث عن العلاقات البحرينية البريطانية هو مهمة السياسيين ولكنني أتناولها كفرد من أفراد الشعب، وليس بخافٍ بأن بريطانيا هي دولة سقف الحريات المرتفع جداً واحترام حقوق الانسان باعتباره أسلوب حياة وثقافة يمارسها الشعب والحكومة، بحكم قِدم نشأة الدولة وامتدادها الجغرافي وعراقة التجربة وثرائها التاريخي والسياسي والإنساني.
وعودة لموضوعي وهو مجريات حفل ذكرى مولد جلالة ملك بريطانيا، إذ أحببت لفتة سعادة السفير البريطاني سعادة السيد أليستر لونج، والذي بدأها بأننا قد اعتدنا لسنوات طوال أن نحتفل بعيد ميلاد الملكة (TheQueen) وأمر جديد هذا العام أن يتغيّر حرف (Q) إلى حرف (K) في إشارة إلى الملك (The King) وأتبع ذلك استذكاراً أنيقاً لجلالة الملكة الراحلة اليزابيث الثانية التي ارتبطت بكل تفاصيل التطور والتحديث المعاصر للمملكة وللدول التي تربطها بها علاقات مباشرة، متوّجاً هذا الاستذكار بحضور صوت جلالتها في الفيلم التسجيلي الذي تمّ عرضه في الاحتفال، والتوديع الصادق لها في ذكرى مولد الملك، ولا شك بأن مثل هذه اللفتة هي التي تحافظ على الترابط بين الشعب والحكم وتعزز علاقاتهما الأسرية باعتبار أن الشعب بأكمله هو بمثابة الابن لحاكمه، وتؤكد بأن الموت لا يُغيّب الأشخاص الذين أسهموا في بناء الوطن واستطاعوا أن يكسبوا محبّة أبنائه، لذا يحافظ الباقين على سيرة الراحلين ليكون ذلك عبرة ودرساً للأجيال بأن ذاكرة الُمحبّ لا تنسى وبأن الحب يرتبط دائماً بالعطاء وبالإحسان وبالإنسانية.
ومن المعلوم بأن علاقة البريطانيين بملكتهم سابقا وملكهم حاليّاً هي علاقة تكاملية تقوم على التواصل المباشر بكل وسائل التواصل، وبأن الاحتفاء برموز الحكم هو ديدن البريطانيين حكومة وشعباً، وكانت الملكة بشخصها تشهد هذا الاحتفاء والتقدير أثناء بقائها على قيد الحياة، فهنيئاً لها وطابت في الحياة والموت.
وفيما يخصّني فإن هذه اللفتة المُخلصة، قد دفعتني إلى استدعاء فكرة مُستقاة منها، لطالما كانت تراودني وأعلم أيضاً بأنها تراود الكثير منكم، وهي أنه من الجميل أن نحتفي بذكر من أسهموا في بناء ونهضة ورفعة الأوطان وتكريم ذكراهم بعد رحيلهم ولا نتركهم للنسيان يطويهم، ولكن يبقى الأجمل دائماً هو أن نحتفي بذكرهم ومنجزاتهم معهم ما داموا أحياء بيننا.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك