خلافا لمنطق الحكمة التي تقول «لا تبغ فراء الدُبّ قبل صيده»، تدور معارك طاحنة داخل حكومة الاحتلال حول مستقبل الحكم في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب.
حامدين الله على أن بأسهم بينهم شديد، وأن قلوبهم شتى، نقول إن الاختلاف قد بلغ أوجه بين رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع جالانت، ليس في مسألة الاستمرار في الحرب، فهي محل اتفاق بينهما، ولكن فيمن يدير غزة بعد انتهاء الحرب، هل تخضع للحكم العسكري الإسرائيلي، أم تديرها سلطة محلية بديلة؟
جالانت يعارض أي حكم عسكري طويل الأمد لقطاع غزة، لأن كلفته عالية في الأرواح والأموال، ووفقا لصحف إسرائيلية فإنه إذا قررت الحكومة فرض الحكم العسكري بغزة في اليوم التالي من الحرب، فإن ذلك سيتطلب سحب قوات من الضفة الغربية المحتلة، وجبهة الشمال، بينما تقدر كلفة السيطرة العسكرية الإسرائيلية على القطاع بحوالي خمسة مليارات ونصف المليار دولار سنويا، ما يخلق أزمة في الموازنة العامة. جالانت من أوائل من تكلموا عن خطة اليوم التالي، حيث دعا في يناير الماضي إلى الحكم الذاتي الفلسطيني، وتشكيل قوة متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية، إضافة إلى شركاء أوروبيين وشرق أوسطيين للإشراف على إعادة تأهيل القطاع، وتتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع بعد تأهيلها بمساعدة دولية. وتدعم جالانت في هذه الرؤية شخصيات محسوبة على تيار الوسط أبرزهم بيني جانتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، لكن نتنياهو عارض وبشدة هذه الدعوة، وهو الذي أكد في أكثر من مناسبة أن إسرائيل لن تقبل بحكم حماستان ولا فتحستان، وأيده في هذا الرفض بالطبع اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن الوطني ايتمار بن غفير، الذي هاجم بشدة جالانت وطالب بإقالته. نتنياهو لم يقدم رؤية واضحة لليوم التالي، غير أنه يرى أن القضاء على حماس نهائيا وتحرير الأسرى الإسرائيليين هو شرط الحديث عن اليوم التالي للحرب.
وفي الوقت الذي يتعاظم الخلاف في البيت الإسرائيلي حول اليوم التالي للحرب، وكأن الإسرائيليين قاب قوسين أو أدنى من النصر، لا تزال المقاومة الفلسطينية تضرب بعنف وتقاتل بعد أكثر من 240 يوما وكأنها في يومها الأول.
الحديث عن اليوم التالي يعلو صوته بينما لم يستطع الاحتلال تحقيق أي من أهدافه، فقد فشل في تحرير الأسرى، وثار عليه المجتمع الإسرائيلي بسبب هذا الملف الذي أحسن الإعلام القسامي إدارته بامتياز. وفي الوقت نفسه فشل الاحتلال في القضاء على المقاومة الفلسطينية، وظهرت تقاتل بشراسة في المناطق، التي زعم الاحتلال أنه سيطر عليها، بينما تتواتر الأنباء والتصريحات عن التنبؤ بعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على القضاء على حركة حماس.
فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه، سوى القصف الوحشي الهمجي على المنشآت والمدنيين، وأخفق في جعل العشائر التي لها تاريخ من الخلاف مع حماس في أن تكون جسما بديلا لإدارة القطاع.
في الأوساط العربية والأمريكية يدور الحديث كذلك عن اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة، وكل الأطروحات على اختلافها تتفق على أمر واحد، وهو عدم إدراج حماس في الإدارة المحتملة للقطاع، إما بالقضاء عليها، وإدارة القطاع من قبل قوات متعددة الجنسيات، أو بدمجها في السلطة الفلسطينية التي تتخذ من المسار السياسي والدبلوماسي خيارا استراتيجيا. إذن، غزة في اليوم التالي في كل الأطروحات بلا حماس، بما يعني انتهاء عهد المقاومة المسلحة، فما الذي يعنيه القضاء على المقاومة أو نزع سلاحها؟
فلسطين بلا مقاومة مسلحة، يعني فقدان الردع الذي يجبر حكومة ملطخ تاريخها بنقض العهود، على التفاوض والتفكير في المآلات، قبل شن أي عدوان على أي من بقاع فلسطين، فليس هناك على وجه الأرض ما يمكن التعويل عليه في منح ضمانات لالتزام الكيان الإسرائيلي بالاتفاقيات والمعاهدات. المقاومة هي التي أعادت القضية الفلسطينية إلى ساحة المجتمع الدولي، وقامت بإحياء الكلام عن حل الدولتين، الذي تنكرت له أمريكا وصار الحديث عنه ضربا من الإفراط في الوهم. المقاومة هي التي حركت الجمعية العامة للأمم المتحدة لاعتماد قرار يدعم طلب فلسطين الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة بدلا من صفة مراقب، وكالعادة يجد أي قرار لصالح فلسطين وضد الاحتلال الفيتو الأمريكي في انتظاره.
المقاومة هي التي فضحت الصهيونية وتدثرها باليهودية، وقضت على ادعاءات المظلومية التي خيمت على عقول الشعوب الغربية، ولا أدل على ذلك من انتفاضة الجامعات الأمريكية ضد الدعم الأمريكي للصهاينة وتبعتها الجامعات الأوروبية.
مازال الحديث عن اليوم التالي مبكرا، طالما أن المقاومة صامدة وتفاجئ العدو في كل مرة بأنها لم ينفد ما في جعبتها، وأن القضاء عليها ليس أمرا هينا. صمود المقاومة وشعب غزة يطيل أمد الحرب الذي من شأنه أن يكلف الاحتلال مزيدا من الخسائر البشرية والمالية، وتثوّر عليه الجماهير الإسرائيلية الغاضبة، إضافة إلى إحراج الإدارة الأمريكية الداعمة للاحتلال وتأزيم علاقتها بشعبها. الشعب الفلسطيني وحده، هو من يقرر من يبقى ومن يرحل، لا حق لأحد في فرض الوصاية عليه أو النيابة عنه في تحديد من يدير شؤونه، وحتما سوف نشهد اليوم التالي للحرب، لكنه لن يكون إسرائيليا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
{ كاتبة أردنية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك