العدد : ١٧٠٥٠ - الأربعاء ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٠ - الأربعاء ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

النظام العالمي عند مفترق طرق

بقلم: جميل مطر {

الاثنين ٢٧ مايو ٢٠٢٤ - 02:00

قرار‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أثار‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬أثار،‭ ‬مسألة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭. ‬إذ‭ ‬جاء‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬كثر‭ ‬فيها‭ ‬حديث‭ ‬خبراء‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬وخاصة‭ ‬المهتم‭ ‬منهم‭ ‬بقضايا‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬عن‭ ‬المكانة‭ ‬المتراجعة‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭. ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬اختار‭ ‬المتحدثون‭ ‬تبرير‭ ‬التراجع‭ ‬في‭ ‬المكانة،‭ ‬أو‭ ‬تفسيره،‭ ‬ضمن‭ ‬حالة‭ ‬أكثر‭ ‬شمولًا‭ ‬وعمقًا‭ ‬في‭ ‬التفاعلات‭ ‬الجارية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬يعرف‭ ‬بمزاج‭ ‬الانعزال‭ ‬لدى‭ ‬عدد‭ ‬متزايد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬أو‭/ ‬وبموجة‭ ‬الدول‭ ‬الواقعة‭ ‬تحت‭ ‬عقوبة‭ ‬العزل‭ ‬والإبعاد‭ ‬عن‭ ‬فعاليات‭ ‬النظام‭ ‬بسبب‭ ‬الخروج‭ ‬أو‭ ‬الزعم‭ ‬بالخروج‭ ‬على‭ ‬القواعد‭ ‬المعمول‭ ‬بها‭.‬

حال‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬كحال‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬لكل‭ ‬دولة‭ ‬على‭ ‬حدة‭. ‬لاحظنا‭ ‬حتى‭ ‬تأكدنا‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬صاروا‭ ‬يتعرضون‭ ‬لحال‭ ‬الانعزال‭ ‬أو‭ ‬حال‭ ‬العزل‭ ‬وما‭ ‬يستتبعهما‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬بالوحدة،‭ ‬وفى‭ ‬أحوال‭ ‬قصوى،‭ ‬بالرغبة‭ ‬أو‭ ‬الميل‭ ‬للانتحار‭. ‬أهتم‭ ‬بمتابعة‭ ‬الظاهرة،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬باحثون‭ ‬ومفكرون‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬كثيرة‭ ‬وتخصصات‭ ‬عديدة،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬اهتموا‭ ‬بها‭. ‬خرج‭ ‬هؤلاء‭ ‬علينا‭ ‬بأفكار‭ ‬مهمة‭ ‬يمكنني‭ ‬تلخيص‭ ‬بعضها‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭:‬

أولًا‭: ‬تشهد‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬زيادات‭ ‬مطردة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬سكانها‭. ‬ازدحمت‭ ‬الطرق‭ ‬والمدارس‭ ‬ومواقع‭ ‬العمل‭ ‬ووسائل‭ ‬المواصلات‭. ‬هذه‭ ‬الزيادات‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬ضغوط‭ ‬شتى‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الحركة‭ ‬والتنقل‭ ‬وصعوبات‭ ‬في‭ ‬خدمات‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬وتضييق‭ ‬في‭ ‬مساحات‭ ‬العمل‭ ‬والرفاهة،‭ ‬تسببت‭ ‬بالتالي‭ ‬في‭ ‬ضيق‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أزمات‭ ‬نفسية‭ ‬حادة‭. ‬كتب‭ ‬أحد‭ ‬الفلاسفة‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬قائلًا‭: ‬إنها‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬بحال‭ ‬‮«‬الانسحاب‭ ‬العظيم‮»‬‭ ‬للفرد‭ ‬العادي‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭.‬

ثانيًا‭: ‬شملت‭ ‬الزيادة‭ ‬قطاعًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬وهم‭ ‬كبار‭ ‬السن‭. ‬هؤلاء‭ ‬بطبيعتهم‭ ‬انعزاليون‭ ‬بالمزاج‭ ‬أو‭ ‬بالفرض‭ ‬المجتمعي‭. ‬هؤلاء‭ ‬يضجون‭ ‬من‭ ‬الضجة‭ ‬والصخب‭ ‬المحيط‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬فيختارون،‭ ‬أو‭ ‬هم‭ ‬يجبرون‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬الانعزال‭. ‬هنا‭ ‬يتولد‭ ‬عند‭ ‬نسبة‭ ‬غير‭ ‬قليلة‭ ‬شعور‭ ‬بالوحدة‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬العزلة‭ ‬أو‭ ‬الانعزال،‭ ‬أي‭ ‬عن‭ ‬انفرادية‭ ‬التفاعل‭ ‬إن‭ ‬صح‭ ‬التعبير‭. ‬الانفرادية‭ ‬تستبعد‭ ‬بحكم‭ ‬التعريف‭ ‬المشاركة‭ ‬وتعتمد‭ ‬درجة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الاستقلالية‭ ‬أو‭ ‬وهو‭ ‬الأهم‭ ‬وربما‭ ‬الأخطر‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬‮«‬النفسنة‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬حب‭ ‬الذات‭ ‬أو‭ ‬تقديسها‭ ‬وربما‭ ‬درجة‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬بالعظمة‭ ‬المبالغ‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬باليأس‭ ‬الذي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يصيب‭ ‬المحبوس‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬انفرادي‭.‬

ثالثًا‭: ‬تفاقمت‭ ‬مشكلة‭ ‬الانفرادية‭ ‬وعلامات‭ ‬وتصرفات‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬الشعور‭ ‬بالوحدة‭ ‬بين‭ ‬سكان‭ ‬دول‭ ‬تعرضت‭ ‬مؤخرًا‭ ‬لأوبئة،‭ ‬مثل‭ ‬الكورونا‭ ‬أو‭ ‬لكوارث‭ ‬طبيعية‭. ‬لاحظنا‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬حيث‭ ‬وقع‭ ‬ميل‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المواطنين‭ ‬لتجنب‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بل‭ ‬وفى‭ ‬حالات‭ ‬كثيرة‭ ‬امتنع‭ ‬كثيرون‭ ‬عن‭ ‬الذهاب‭ ‬الى‭ ‬أعمالهم‭ ‬وزادت‭ ‬نسبة‭ ‬من‭ ‬فضلوا،‭ ‬إن‭ ‬سمحت‭ ‬ظروف‭ ‬العمل،‭ ‬أداء‭ ‬مهامهم‭ ‬من‭ ‬منازلهم‭. ‬لوحظ‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬السلوكيات‭ ‬والعلاقات‭ ‬نتيجة‭ ‬الشعور‭ ‬المتزايد‭ ‬بالوحدة‭ ‬وبغيرها‭ ‬من‭ ‬سلبيات‭ ‬الانفرادية‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬والتفاعلات‭ ‬مع‭ ‬الغير‭ ‬وخاصة‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬وممثليها‭.‬

رابعًا‭: ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬التعددية‭ ‬السياسية‭ ‬والأحزاب‭ ‬والنقابات‭ ‬وأجهزة‭ ‬التواصل‭ ‬الإعلامي‭ ‬وحريات‭ ‬التعبير‭ ‬والتنقل‭ ‬يزداد‭ ‬ميل‭ ‬الإنسان‭ ‬الى‭ ‬التقوقع‭ ‬والانفراد‭ ‬في‭ ‬التصرف،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يتفاقم‭ ‬شعوره‭ ‬بالوحدة‭ ‬ومعه‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الاختفاء‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬المشاركة‭ ‬وفى‭ ‬النهاية‭ ‬يغلب‭ ‬اليأس‭ ‬والإحباط‭ ‬فالانزواء‭. ‬هذا‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬تهديد‭ ‬مستتر‭ ‬للاستقرار،‭ ‬فالإنسان‭ ‬المشارك‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬أداة‭ ‬بقاء‭ ‬ورقي‭ ‬الدولة،‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬قامت‭ ‬وتبقى‭.‬

صدق‭ ‬الأولون‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬السياسة‭ ‬عندما‭ ‬رفضوا‭ ‬الفصل‭ ‬المطلق‭ ‬بين‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬علوم‭ ‬السياسة‭. ‬توقفت‭ ‬طويلًا‭ ‬أمام‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬الإنسان،‭ ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬المواطن،‭ ‬الذي‭ ‬يختار‭ ‬الانعزال‭ ‬أو‭ ‬يرضى‭ ‬بالعزلة‭ ‬المفروضة‭ ‬عليه‭. ‬رحت‭ ‬أقارنها‭ ‬بالعناصر‭ ‬التي‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تختار‭ ‬الانعزال‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ترضى‭ ‬بعزلة‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭. ‬رحت‭ ‬أراجع‭ ‬وأتذكر‭ ‬وأقارن‭.‬

سويسرا‭ ‬مثلًا‭ ‬اختارت‭ ‬الانعزال‭ ‬وأسمته‭ ‬حيادًا‭. ‬في‭ ‬قارة‭ ‬تشهد‭ ‬من‭ ‬عشرات‭ ‬العقود‭ ‬حروبًا‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬أهلكت‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬امبراطوريات‭ ‬ودمرت‭ ‬مئات‭ ‬المدن،‭ ‬وأطلقت‭ ‬العنان‭ ‬لهجرات‭ ‬وهجرات‭ ‬مضادة‭.‬

أحدهم‭ ‬سألني‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬أعتبر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬وضعها‭ ‬الراهن‭ ‬ومع‭ ‬استمرار‭ ‬حرب‭ ‬إسرائيل‭ ‬وأمريكا‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وخاصة‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬التي‭ ‬تشنها‭ ‬إسرائيل‭ ‬خاصة‭ ‬ضد‭ ‬شعب‭ ‬غزة،‭ ‬أعتبرها‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬انعزال‭. ‬واستطرد‭ ‬في‭ ‬السؤال،‭ ‬أو‭ ‬أضاف‭ ‬سؤالًا‭ ‬إلى‭ ‬سؤال،‭ ‬قال‭ ‬فإن‭ ‬اعتبرتها‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬عزل‭ ‬أو‭ ‬انعزال‭ ‬فهل‭ ‬لاحظت‭ ‬على‭ ‬سلوكها‭ ‬تغييرًا،‭ ‬وبدقة‭ ‬أشد‭ ‬ألست‭ ‬شاهدًا‭ ‬مثلي‭ ‬على‭ ‬دولة‭ ‬عظمى‭ ‬تتصرف‭ ‬تصرفات‭ ‬دولة‭ ‬تشعر‭ ‬بالوحدة،‭ ‬وهي‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬غاص‭ ‬بالأمم‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬وبالاسم‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تحمل‭ ‬صفة‭ ‬القائد‭ ‬أو‭ ‬المهيمن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة؟‭ ‬ألم‭ ‬تنتبه‭ ‬إليها‭ ‬وبعض‭ ‬تصرفاتها‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬إحباط؟‭ ‬ألا‭ ‬تراها‭ ‬كما‭ ‬أراها‭ ‬دولة‭ ‬عظمى‭ ‬محبطة؟

يردد‭ ‬خبراء‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬ما‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬الفهم‭ ‬للسلوك‭ ‬السياسي‭ ‬للدول،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬السياسي‭ ‬للأفراد‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬دولة،‭ ‬أن‭ ‬أمورا‭ ‬ثلاثة‭ ‬تتسبب‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الانعزال‭ ‬عن‭ ‬الجماعة،‭ ‬وهي‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬يصاحبها‭ ‬الشعور‭ ‬بالوحدة‭ ‬وتصرفات‭ ‬تعكس‭ ‬حالة‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬والطموحات‭ ‬المحبطة‭. ‬أما‭ ‬هذه‭ ‬القواعد‭ ‬فمنها‭: (‬1‭) ‬خروج‭ ‬القوة‭ ‬الأعظم‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬وأكثرها‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬القائد‭ ‬نفسها،‭ ‬وتمرد‭ ‬دول‭ ‬متزايدة‭ ‬العدد‭. (‬2‭) ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الهيمنة‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬قيادة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. (‬3‭) ‬الشكوك‭ ‬المتزايدة‭ ‬لدى‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬نجاعة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬القائم‭ ‬وخاصة‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الاستقرار‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭. ‬لا‭ ‬يفوتني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أن‭ ‬ألفت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬انطباق‭ ‬قواعد‭ ‬الفهم‭ ‬هذه‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬كما‭ ‬الدولي‭.‬

كثيرة‭ ‬هي‭ ‬النماذج‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬العودة‭ ‬لدراسة‭ ‬نهج‭ ‬سياساتها‭ ‬الخارجية،‭ ‬والداخلية،‭ ‬خلال‭ ‬انعزالها‭ ‬أو‭ ‬عزلها‭. ‬كوبا‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬نموذجًا‭ ‬لحال‭ ‬دولة‭ ‬صغيرة‭ ‬فرض‭ ‬عليها‭ ‬العزل‭. ‬الصين‭ ‬الشعبية‭ ‬مارست‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬عقودا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقرر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬حاجتها‭ ‬الى‭ ‬وجودها‭ ‬قطبًا‭ ‬مشاركًا‭. ‬كوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬نموذج‭ ‬فريد‭ ‬لرد‭ ‬فعل‭ ‬دولة‭ ‬صغيرة‭ ‬تعرضت‭ ‬للعزل‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬القوة‭ ‬العظمى‭ ‬فتحولت‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬حشد‭ ‬شامل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬وتهديد‭ ‬كامن‭ ‬لأمن‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. ‬إسرائيل‭ ‬نموذج‭ ‬آخر‭ ‬فريد‭. ‬عاشت‭ ‬فترة‭ ‬غير‭ ‬قصيرة‭ ‬تحت‭ ‬قرار‭ ‬إقليمي‭ ‬بالعزل‭ ‬تجاوزته‭ ‬بشن‭ ‬حرب‭ ‬شبه‭ ‬دائمة‭ ‬على‭ ‬الإقليم‭ ‬الذي‭ ‬فرض‭ ‬عليها‭ ‬العزل‭ ‬وبالاندماج‭ ‬العضوي‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬للدولة‭ ‬العظمى‭. ‬تايوان‭ ‬تقف‭ ‬برد‭ ‬فعلها‭ ‬أيضا‭ ‬فريدة‭. ‬فضلت‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬أداة‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬القمة‭ ‬الدولية‭ ‬واثقة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬مصير‭ ‬عزلتها‭ ‬مقترن‭ ‬بظروف‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬عودتها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‭. ‬سمعت‭ ‬صديقًا‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬يصف‭ ‬حالة‭ ‬تايوان،‭ ‬فورموزا‭ ‬سابقًا،‭ ‬بحالة‭ ‬دولة‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬فائض‭ ‬الزمن‭. ‬عشت‭ ‬دهرًا‭ ‬أحاول‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬قصد‭.‬

لكل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ - ‬النماذج‭ ‬سيرة‭ ‬حياة‭. ‬كل‭ ‬منها‭ ‬اختط‭ ‬لنفسه‭ ‬سياسة‭ ‬خارجية‭ ‬تناسب‭ ‬ظروف‭ ‬العزل‭ ‬أو‭ ‬الانعزال‭ ‬وتتلاءم‭ ‬مع‭ ‬هدف‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬أو‭ ‬الاستفادة‭ ‬منه‭. ‬كل‭ ‬منها‭ ‬عانى‭ ‬من‭ ‬ضغط‭ ‬إحباط‭ ‬أو‭ ‬خيبة‭ ‬أمل‭ ‬وانقسامات‭ ‬داخلية‭. ‬كل‭ ‬منها‭ ‬عاش‭ ‬مراحل‭ ‬ارتباك‭ ‬وتردد‭ ‬وقلة‭ ‬ثقة‭ ‬في‭ ‬الآخر‭ ‬عدوًا‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬صديقًا‭.‬

أمامنا،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬جنباته،‭ ‬دولة‭ ‬عظمى‭ ‬ارتكبت‭ ‬من‭ ‬السياسات‭ ‬والممارسات‭ ‬ما‭ ‬جلب‭ ‬عليها‭ ‬بوادر‭ ‬عزلة‭ ‬داخل‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬هي‭ ‬صانعته‭ ‬وقائده‭. ‬جلب‭ ‬أيضًا‭ ‬بالتبعية‭ ‬داخل‭ ‬قطاع‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬نخبتها‭ ‬رغبة‭ ‬متنامية‭ ‬في‭ ‬الانعزال‭ ‬وسلوكيات‭ ‬أفراد‭ ‬وأجيال‭ ‬تستحق‭ ‬منا‭ ‬المتابعة‭ ‬والانتباه‭.‬

الأمر‭ ‬جدا‭ ‬خطير‭ ‬وكذلك‭ ‬الوضع‭ ‬والظرف،‭ ‬فالدولة‭ ‬القائد،‭ ‬بقوتها‭ ‬الجبارة‭ ‬وأثناء‭ ‬لحظات‭ ‬ارتباك‭ ‬وسيولة‭ ‬ومعايير‭ ‬مزدوجة‭ ‬وشباب‭ ‬منفعل‭ ‬بالغضب‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬الرضا،‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬كبيرة‭ ‬تقرر‭ ‬شنها‭ ‬ضد‭ ‬شعب‭ ‬فلسطيني‭ ‬أعزل،‭ ‬تشارك‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬حروب‭ ‬استعمار‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬وإفريقية‭ ‬متزايدة‭ ‬العدد‭. ‬الدولة‭ ‬صانعة‭ ‬القواعد‭ ‬الأخلاقية‭ ‬للنظام‭ ‬الدولي‭ ‬صارت‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬متهمة‭ ‬بخرق‭ ‬هذه‭ ‬القواعد‭. ‬الدولة‭ ‬المكلفة‭ ‬بحفظ‭ ‬الأمن‭ ‬والسلم‭ ‬الدوليين‭ ‬هي‭ ‬الآن‭ ‬متهمة‭ ‬بأنها‭ ‬تنشر‭ ‬الفوضى‭ ‬وتثير‭ ‬الشغب‭. ‬الدولة‭ ‬الأمل‭ ‬صارت،‭ ‬في‭ ‬اعتقاد‭ ‬شعوب‭ ‬العالم،‭ ‬مصدرًا‭ ‬للألم‭.‬

 

{‭ ‬كاتب‭ ‬ومحلل‭ ‬سياسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا