يعد كتاب «نظام التفاهة» الأول من نوعه، حتى الآن، من حيث أسلوب الطرح وأدواته، ومن حيث تصديه للظاهرة ببعدها السياسي الخطير وبرؤية أنثروبولوجية شديدة المطابقة مع الواقع، بما يمكن اعتباره فناراً يضيء الطريق لمعرفة مفاهيم هذا النظام كواحد من أهم وأخطر المناهج السياسية التي تم تنفيذها، وكأهم وأخطر العوامل التي تقف وراء ما يجتاح عالمنا الراهن من حروب وعنف مفرط وشعبوية، وعودة الاستعمار مجدداً، مع طغيان سياسي، وأنماط مختلفة من اللاعدالة واللاإنسانية والتطرف وتوحش رأس المال في السياسات الدولية التي يعاد تشكيلها بمنظومة قانون الغاب، ليأكل القوي به الضعيف من دون رادع.
يركّز الكتاب بحدة، وبسخرية أحياناً، على ما تعانيه عموم المجتمعات الغربية من القصور المعرفي، وفقدان الكفاءة والعقلانية والحكمة، في ظل تسارع الأحداث، وتزايد قوة أداء اللوبيات الإعلامية في تحريف الأخبار، وتشويه الحقيقة، والخطر المتصاعد لدور لوبيات التعليم المتخصصة في تسليع الجامعات والمدارس والمعرفة، من خلال «سلسلة تبدأ أولى حلقاتها بالأستاذ الجامعي للحصول على منح من هذه الجهات الممولة. وهكذا، ينحدر العمل بالجامعة إلى درك التفاهة، فتتحول فيه من منتج للمعرفة إلى تاجرٍ فيها»، لننتهي بأجيال من مخرجات نظام التفاهة بأطوار أخلاقية بعيدة عن عصر التمدن الحضاري وتشريعاته الإنسانية والمفاهيمية.
نظام التفاهة العربي
حازت النسخة العربية من كتاب «نظام التفاهة» (دار السؤال 2020) اهتماما عربيا واسعا، بسبب توافره على عناصر عدة، أهمها، أولاً: واقعية المنظور السيسيولوجي الذي استخدمه المؤلف الدكتور آلان دونو (Alain Deneault - أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كبيك، كندا) في تحليل رؤيته وفي تفسير النماذج التي عززت هذه الواقعية، مما جعل مفهوم الكتاب («نظام التفاهة» La mediocratie – 2017) قريباً من عقل وقلب القارئ؛ وثانياً: تميّز النسخة العربية بإضافة علمية وفكرية قيّمة ساهمت بها المترجمة الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري (أكاديمية كويتية، تخصص القانون الخاص) في مقدمة شملت 53 صفحة، استخدمت فيها أدواتها الفكرية واللغوية والثقافية الواسعة، بجانب شغفها المعرفي في ذات الموضوع؛ وثالثاً: اللغة العربية الراقية التي استخدمتها المترجمة في ترجمة الكتاب من لغته الأصلية (الفرنسية)، ومن نسخته الإنجليزية...
وقد تكاملت هذه العناصر معاً لتزيد من مساحة ومفاهيم «نظام التفاهة» الذي حدده المؤلف في نطاق المجتمع الغربي (الأوروبي والكندي)، بمساحة إضافية شملت البُعد العربي في «نظام التفاهة» تعزيزاً لمصداقية الطرح برمته، وتأكيداً على أن العالم يعيش موسم حصاد ما زرعته العولمة خلال عقود طويلة، وما بذرته العولمة باجتثاث الشعوب والمجتمعات من تاريخها وتقاليدها وقيمها الفكرية والثقافية والأخلاقية، وتهجين هوياتها الأصيلة، لتجني «التفاهة».
تفشي قواعد الرداءة وتهميش منظومات القيَم
ناقشت المترجمة أطروحات الكتاب من منظورها الشخصي الملتزم «بالمنظور الانطباعي الحر»، وبصيغة مقاربة فكرية بين الطرح الغربي لنظام التفاهة الذي ناقشه الكاتب برؤية سيسيولوجية ثائرة، وبين الطرح العربي الذي ناقشته المترجمة برؤية أكثر هدوءًا؛ والطرحان نجحا بجدارة في تعرية السطحية الفكرية والابتذال الأخلاقي المستشريين في مجتمعاتهما، حول ما وصفه الكاتب بقوله: «نحن نعيش في مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدّى، تدريجيا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.. بذلك، وعبر العالم، يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرّداءة والانحطاط المعياريَّين: فتدَهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيِّبَ الأداء الرفيع، وهمّشت منظومات القيم، وبرَزَت الأذواق المنحطة، وأُبعِد الأَكفّاء، وخلَت الساحة من التحديات، فتسيّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائماً تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي...».
أشارت المترجمة إلى أنها سبق أن نشرت مقالات حول العديد من مظاهر نظام التفاهة، وبالأخص حول: «موجات التسطيح، تشابه الشخصيات، غياب العقل النقدي، دعاوى الخبرة، الرأسمالية المتوحشة، وَهْم الكاريزما، عطب المؤسسات، الفساد، تسليع الحياة العامة، الفن الرخيص، أثر التلفزيون، التلوث، التخريب لإعادة الإعمار، العلاقة بين المال والسياسة، الحوكمة، ثقافة الإدارة السطحية ومفرداتها الخالية من المعنى («الابتكار»، «التمكين»، «ريادة الأعمال»)، دور الآيديولوجيا، الطبقية المالية، الفضاء الخاص والفضاء العام، الاستعمار الاقتصادي، الأوليجارشية، الأزمة المالية، برامج التقشف، نظم التعليم وجودتها/دواها، الجريمة المنظمة، العلاقة بين المال والأكاديميا (تسليع الجامعة)»... وفي هذا إشارة واضحة إلى نوعٍ من التطابق ما بين قناعات المترجمة وبين طروحات المؤلف، والذي تعتبره الأولى أحد أسباب اهتمامها بترجمة الكتاب.
وترى المترجمة العربية أن الكاتب نقل بدقة ما تعتقده هي إنه «الانتشار المستشري للتفاهة»، الذي قد يشكل لبعض غير المتمعنين بأنه شكل من أشكال الفوضى، إلا إنه نظام «يضرب بجذوره في تربة المجتمع شيئاً فشيئاً، بشيء من المنهجية والاستقرار المرعبين»، وإن كتابها، الذي ربما كانت ستكتبه حول هذا الموضوع، لن يكون مختلفاً «إلا من حيث الأمثلة، ولكن ليس من حيث القناعات والنتائج»... مما يؤكد أن استشراء «نظام التفاهة» في مجتمعاتنا العربية يتم بذات المنهجية المرعبة المتّبِعَة في استشرائه عالمياً، ولكن من بوابات ومداخل أكثر يسراً وأسرع تأثيراً، حيث إن منهجة التفاهة وتوطين الأخلاقيات المنحطة في مجتمعات يسودها الاستعمار والاحتلال، والعصابات المذهبية، والأحزاب الميليشياوية، والتطرف والدمار وفقدان السيادة، تُعدُّ أكثرَ يُسراً منها في المجتمعات الأخرى، حتى باتت «التفاهة» ظاهرة مهيمنة على نمط حياتنا وأحاديثنا وثقافاتنا وقراراتنا، ومزعزعة لقيمنا وثوابتنا الأصيلة في مجتمعاتنا العربية.
تفاهة مخرجات التعليم والإعلام
كان ولايزال الإعلام من أخطر بوابات «الانتشار المستشري للتفاهة» في المجتمعات الضعيفة، التي تم اختراق أنظمتها التعليمية مبكراً. إذ في ظل الشعارات الجوفاء حول تحديث وإعداد الأجيال الجديدة للانتقال من القرن العشرين إلى قرن التكنولوجيا والإبداع العلمي، نجح التعليم المُختَرَق في اجتثاث مجتمعات بأكملها من جذورها التاريخية وثوابتها وقيَمها وولاءاتها وانتماءاتها الوطنية لصالح «الهويات القاتلة» التي عزز الإعلام أدوارها الطائفية والشعبوية والعنصرية، والتطرف والعنف.
كما فرّطت مناهج التعليم في بناء منظومة الأخلاق التي كانت من ثوابت مجتمعاتنا، لصالح أخلاقيات السوق والنفاق والأنانية ونظرية المصالح، ولصالح ما تم تصديره لنا عبر إعلام هوليوود وإعلام التضليل المعرفي الذي اجتاح عالمنا العربي البسيط.
وجاء القرن الجديد لنجد أنفسنا، كمجتمعات ومؤسسات وأفراد، منخرطين في لعبة الإعلام الجديد لاستكمال ما بدأه التعليم لتخريب العقول والقلوب. وبالاستخدام المبتذل والمفرط لما يُدعى بالإعلام الجديد، ووسائل التواصل، بدأت عملية ترسيخ التفاهة، وتحويل التافهين إلى رموز، حتى صار «لأية بلهاء جميلة، أو وسيم فارغ» أو فنان خاوٍ، أو كاتب مرتزق سهل الانصياع، أن يُفرض كنجم ورمز مجتمعي أو ثقافي في أوساط أُفرغت من الفكر و«الثقافة»، والأخلاق، وهي أوساط تتسع رقعتها مع الاتساع المتسارع والممنهج في سياسات تهميش الكفاءات الفكرية والعلمية والمثقفين والمبدعين الجادين.
ورغم كثرة الشواهد على استشراء التفاهة والخواء الفكري والمعنوي في مجتمعاتنا، إلا أن أكثرها وضوحاً وخطراً هو التفاهة المسيطرة على أخلاقيات وسلوكيات استخدام الشوارع والطرق، والتي تحولت مع الاقتناء الاستهلاكي المتزايد للسيارات كأي سلعة استهلاكية أخرى، تحولت إلى ميادين للسباق مع الزمن والموت، حيث تفقد مجتمعاتنا في حوادث السير أضعاف مَن يموتون في الحروب... والظاهرة في ازدياد، مع زيادة تفاهة العقول، وتفاهة الإعلام ودوره في تجهيل عقول الأجيال الجديدة التي فقدت التوازن حتى في معرفة قيَم الحياة والموت.
الإفراط والتفريط في قيَم سوق العمل
شمل التغيير جوانب عديدة في الحياة العربية، حيثما فُرضت قيم الثقافات الليبرالية المستوردة، الخالية من الأطر الإنسانية، نفسها على أخلاقيات المجتمع، وخصوصا في أخلاقيات سوق العمل السائدة، والمتسيدة على جوانب حياتنا، حتى أُفرغت مناهج التعليم والتشريع من العلوم الإنسانية التي من شأنها تزويد العقول بالفكر النقدي الفلسفي والمعنوي، وبالمفاهيم القيَميّة التي تُغذي خلايا الأعصاب والقلب بالإنسانية وسمو الأخلاق، لإفساح المجال لتسيّد نظام التفاهة على بيئة العمل؛ وقد انعكس ذلك في أرجاء هذا السوق والمجتمعات من حوله، ويظهر في إدارات خالية من مفاهيم الاحترام والتقييم الإنساني لمعايير الأداء وتقدير القيمة المعنوية للإنتاج والإنسان.
ومع الجري والهرولة وراء قيَم السوق الجديدة، خسر إنسان السوق القدرة على الاستماع والتمعن، وخسر القدرة على التأمل في سبل وأهمية بناء الكوادر والقدرات والانتماء إلى ثوابت روحية وأخلاقية صادقة ومستدامة... وهكذا تسير العجلة بأقصى سرعتها في صيرورة «نظام التفاهة».
هوس الحصول على الشهادات
شاركت الدكتورة الهاجري في مقدمتها ما أثاره مؤلف الكتاب حول «الأحوال المؤسفة للجامعات» في زمن نظام التفاهة، مؤكدة بأن ما يناقشه «هي أمور تعرفها جامعاتنا العربية، وأكثر»، لتضيف سرداً موجزاً حول ظاهرة «طلب العلم لأغراض المظهر الاجتماعي، لا طلباً للحكمة العالية»، وما وصفته بظاهرة الهَوَس بالحصول على الشهادات العليا (ماجستير والدكتوراه) لأغراض المظهر الاجتماعي، والجاه والمال، وليس لأغراض «الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق»، حتى صار العلم سلعة للتسويق والربح المادي.
لقد أُفرغت مجتمعاتنا من قيم القراءة والمعرفة والثقافة والأخلاق، وخسرت مقومات اللغة ومفرداتها وآدابها حتى في الحديث والحوار، وخسرت مفاهيم العلاقات الإنسانية بمضمونها الأخلاقي في احترام الإنسان لذاته الإنساني، وتقدير انجازاته، عوضاً عن العلاقات القائمة على أنانية المصالح... وخسرنا الجزء الإنساني في احترام النظام، وإنسانية مفاهيم اكتساب المعرفة وتبادل الثقافات واحترام الآخر.
التفاهة في ظاهرة الخبراء
وانتقد المفكر آلان دونو ظاهرة الخبراء بأنهم ذوو تخصص ضيق؛ يعملون لخدمة السوق «عوض أن يكونوا علماء ذوي أفق واسع قادرين على حل مشاكل الحياة المختلفة»؛ وعليه فهو يفصل بين الخبراء كممثلين لسلطة الاقتصاد، وبين المثقفين ذوي الفكر الحر والملتزمين بالقيم والمبادئ؛ ويصف الخبير بالمصلحية الواضحة لأنه يعمل لصالح مؤسسة تحدد دوره ومهمته فيلتزم بأهدافها مقابل ما يحصل عليه من أجر...
من مكارم الأخلاق إلى.... التفاهة
ومن المؤسف أن البعض يحاول أن يصف نظام التفاهة الأخلاقي هذا بأنه من قواعد وسلوكيات العصر الرقمي، مما يؤكد على إننا نعيش عصر الجهل المعرفي بامتياز، وهو جهل يجهل أمره الجهلاء؛ وبصيغة أخرى إن «فاقد الشيء لا يعطيه»، فكيف السبيل إلى التصحيح!!
أمام هذا السيل الجارف «لنظام التفاهة» الذي سرده كاتب الكتاب ومترجمته في 365 صفحة، نتوقف، لنراجع حساباتنا فيما خسرته أمتنا من تاريخ أخلاقي وإنساني عربي رفيع، ذكره رب العالمين في كتابه العزيز، قرآننا الكريم، ووصفه بمكارم الأخلاق... يا ترى أين أمتنا من ذلك التاريخ وقد تحولت بيئات العمل والنوادي والمدارس والجامعات والمجالس العربية مصنعاً للتفاهة والفراغ المعرفي والأخلاقي، بعد أن كانت مصانع تبني الإنسان والقيم الاجتماعية والمعرفية الإنسانية.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك