بتكلفة تزيد على 14 مليار دولار (50 مليار شيكل) استخدمت إسرائيل آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ في معركة إبادة لا شبيه لها في التاريخ، لذبح قطاع غزة بشرا وحجرا، وتحويله إلى أرض جرداء من دون شعب، في جريمة إبادة جماعية (جينوسايدGenocide ) لقتل البشر، وإبادة المنازل (دوموسايد Domicide) لمحو كل معالم وخريطة البلاد بما فيها الطرقات والشوارع وحتى العناوين (قتل أكثر من 32623، وجرح أكثر من 75092، ونزوح أكثر من مليون نسمة). وبحسب تحليلات اقتصادية جادة، وبأرقام مستمرة في الارتفاع كل يوم مع استمرار الحرب بمدى زمني مفتوح بلا حدود، عملت هذه التكلفة الباهظة على زيادة عجز ميزانية الكيان الصهيوني. (ورد مصطلح «دوموسايد» في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية، بأنه مصطلح معروف أكاديميا على غرار «جينوسايد»، وهو تعريف لـ«قتل المنازل» الذي يشير في المقام الأول إلى «استحالة العودة إلى الوطن في نهاية الحرب، لأنه لا يوجد مكان للعودة إليه»).
الأرقام المذكورة أعلاه مستقاة من أوراق الأمم المتحدة، ومن وسائل إعلام العدو الإسرائيلي والصحافة العربية والأجنبية، مقرّبة حتى اليوم الـ 175 من الحرب المستمرة.
لقد أكد رئيس وزراء إسرائيل في خطاب إعلانه بدء الحرب على غزة أولاً إنه يهدف إلى القضاء على حماس، وإن العقاب سيكون شديداً، وإن الحرب ستغير خريطة المنطقة ليبدأ عصر جديد، ولم نفهم حينه ما هو هذا العصر الجديد الذي يعنيه نتنياهو، وما وراء الحرب من أهداف وغايات غير معلنة، من متطلباتها محو غزة من الوجود دون أي اعتبار للمجتمع والقانون الدوليين.
ومع مجريات الحرب ثبت أن نتنياهو أقدم على هذه الحرب باستعدادات مسبقة، وبعلم ومعرفة وافية حول العواقب التي ستتحملها إسرائيل اقتصاديًّا ومعنويًّا ودوليًّا، إضافة إلى ما ستخلّفه هذه الجريمة البشعة وهذا الدمار والعنف الدموي اللاأخلاقي واللاإنساني من تحدٍ خطير في نفوس الفلسطينيين، وأجيالهم القادمة.
وهذا التحدي يقاس بحكم الطبيعة البشرية، والمعرفة الطويلة بشعب لم ينس قضية وطنه المحتل منذ ثمانية عقود، وبقي مقاوما جيلا بعد جيل... إذ يمكن التأكيد اليوم أن تراكم الحزن والألم والغضب في وجدان الفلسطينيين في هذه الحرب لن تزول آثاره مقابل أي ثمن أقل من استرجاع حقوقه، فهذا التحدي هو عنوان العصر الجديد، الذي لن يكون العصر الذي يخطط له نتنياهو فقط، بل أيضاً سيكون عصراً فلسطينياً مختلفاً يمكن تقدير مقوماته بمدى بشاعة جريمة الإبادة التي ذُبح فيها الفلسطينيون.
ومن هذا المنطلق نبحث عن الغاية الحقيقية لهذه الحرب، وأسباب النزيف الدموي الذي يعيشه شعب غزة منذ أكثر من ستة أشهر؛ نبحث عن جواب عن تساؤلات مهمة حول: لماذا الآن؟ ولماذا تتحمل إسرائيل، لأول مرة في تاريخها، كل هذه الخسائر المادية والمعنوية والاقتصادية في حرب باهظة الثمن تستهدف محو غزة؟! وما الحسابات الحقيقية التي لم يُكشف عنها لهذه الجريمة البشعة؟، بمعنى آخر هل لدى إسرائيل غايات أخرى لهذه الحرب المفتوحة بتكاليفها، ومداها الزمني؟ أهداف وغايات لا علاقة لها تماماً بادعاءات إنهاء وجود حركة حماس في قطاع غزة دفاعاً عن النفس.
وبلغة الأرقام، كم ستكسب إسرائيل مقابل الثمن الباهظ الذي دفعته في هذه الحرب؟ وقد عُرف عن الكيان الصهيوني دائماً تجنبه للحروب الطويلة والباهظة التكلفة؛ فهل تعمل من أجل أهداف خفية، كما كانن للولايات المتحدة الأمريكية أهداف خفية لغزو واحتلال العراق تختلف تماماً عن الأهداف التي أعلنتها قبل الحرب!! وكما جرى في غيرها من حروب المنطقة التي لم تتوقف منذ بداية القرن الجديد...
نعم، إنه رغم ما لدى إسرائيل من دعم غربي كامل، ومصادر تمويل مفتوحة من الولايات المتحدة، في كل حروبها، إلا أن التكلفة الباهظة لهذه الحرب، ماديًّا ومعنويًّا وبشريًّا، تثير الكثير من التساؤلات حول ماهية الأرباح التي ستجنيها إسرائيل، والأرباح هنا يجب أن تُحتسب بالأرقام، وبأضعاف وأضعاف الخسائر.
للحصول على إجابة مقنعة عن تساؤلاتنا سنستعين بدراسة صادرة عام 2019 من منظمة الأونكتاد (UNCTAD)، وهي منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة باسم «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» (United Nation Conference on Trade and Development)، أنشئت عام 1964 بهدف العمل على صياغة سياسات متعلقة بجميع جوانب التنمية لإيجاد بيئة ملائمة تساعد على اندماج الدول النامية في الاقتصاد العالمي، من خلال زيادة فرص هذه الدول في التجارة والاستثمار والتنمية على أساس عادل.
أعد أونكتاد التقرير – الدراسة (UNCTAD/GDS/APP/2019/1) في سياق عدد من التقارير التي قدمتها المنظمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة استجابة لقراراتها رقم 69/20 و70/12 و71/20 و73/13 و73/18 والتي طلبت فيها من الأونكتاد «تقديم تقرير عن التكاليف الاقتصادية التي يتكبدها الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال الإسرائيلي».
ومن المهم معرفة أهم ما ورد في الدراسة (UNCTAD/GDS/APP/2019/1)، كما جاء نصاً في المتن الذي يذكر إن الهدف الرئيسي منها يتمثل في «تحديد واقتراح خطوط عريضة أولية لتقدير حجم الخسارة الاقتصادية التي يتكبدها الشعب الفلسطيني بسبب حرمانه من حقه الطبيعي في تطوير موارده الطبيعية واستغلالها، ويشتمل هذا الحق على ما هو أكثر من النفط والغاز الطبيعي حيث يشمل جميع الموارد الطبيعية والاقتصادية»، غير أن تركيز الدراسة انحصر في موردي النفط والغاز الطبيعيين، بسبب ارتفاع قيمتهما وأهميتهما الكبرى «بالنسبة إلى إمكانية تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب الفلسطيني من الطاقة وإيرادات التصدير». والسبب الرئيسي الآخر هو نظراً إلى الأهمية الحاسمة لحقول النفط التي اكتُشفت في شرق المتوسط حديثاً و«التي شرَعت إسرائيل بالفعل في استغلالها لمنفعتها الخاصة حصراً، رغم إن هذه الموارد تكون مشتركة في العادة....».
وعليه تؤكد الدراسة المذكورة إنه منذ ما بعد حرب 1967 «أصبحت السيطرة على الأرض والموارد الطبيعية والمياه، ولا تزال، في صلب النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، حيث إن الاستحواذ على الموارد الطبيعية، أو إبعاد الفلسطينيين عن مواردهم الطبيعية، قد أدى على الدوام دوراً كبيراً في علاقات إسرائيل مع الشعب الفلسطيني»... أما بالنسبة إلى غزة فتؤكد الدراسة إنه منع الاحتلال تطوير حقول الطاقة العائدة لهم، وزاد هذا المنع والحرمان من استغلال موارد الطاقة منذ فرض الحصار الكامل على غزة في عام 2007.
والأهم من كل ذلك هو ما تذكره الدراسة من تأكيدات لعلماء جيولوجيين واقتصاديين مختصين في الموارد بأن «الأرض الفلسطينية تقع فوق احتياطيات شاسعة من ثروات النفط والغاز»، ولكن احتلال إسرائيل أرضهم هو العَقَبَة الكبرى أمام استغلال الفلسطينيين لتلك الثروات والاستفادة منها، وإن دولة الاحتلال «ما فتئت تسيطر على معظم الموارد الطبيعية العائدة للفلسطينيين وتتحكم في تطويرها منذ عام 1967».
ومن خلال دراسات علمية، مرفقة بخرائط، تورد الدراسة تفصيلاً وافياً حول الموارد غير المكتشفة في فلسطين المحتلة، مؤكدة أنها تشكل كميات كبيرة من النفط في أعماق تتراوح بين ألف إلى 6 آلاف متر وعلى درجة حرارة تتراوح ما بين 60 و150 درجة مئوية، حيث يمكن إيجاد النفط بكميات كبيرة، بينما يوجد الغاز على عمق أقل.
وبالنسبة إلى منطقة «حوض الشام»، الممتدة من طرطوس إلى جنوب غزة، على مساحة تُقدّر بـ83 ألف كيلومتر مربع في شرق المتوسط، فإن الدراسة تشير إلى تقديرات دائرة المسح الجيولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية (2010) التي تؤكد أن متوسط ما يمكن الحصول منها (الحوض) يعادل 1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج بقيمة صافية تناهز 71 مليار دولار، وما يعادل 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز القابل للاستخراج بقيمة صافية تناهز 453 مليار دولار (بأسعار عام 2017).
وهذا يعني، بموجب الدراسة، إن حوض الشام يُعَد «من أهم مصادر الغاز الطبيعي في العالم، غير أن مشكلة هذه الثروة الطبيعية تتمحور حول مسألة حقوق الملكية العائدة للأطراف المتعددة المستفيدة منها، وتعقيدات تحديد صيغ التقاسم العادل بينهم»، علماً بأن «للفلسطينيين مصالح كبرى ليس في الحقول الموجودة في أراضيهم فحسب، وإنما في جميع الاحتياطيات المشتركة».
وتستعرض الدراسة سردًا مفصلا حول اكتشافات الغاز الطبيعي قبالة ساحل غزة، بجانب المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية بشأن الاستغلال المشترك لحقول الغاز هذه، من أهمها إنه في اتفاق أوسلو الثاني (1995) تم منح «السلطة الوطنية الفلسطينية ولاية بَحْرِيّة على مياهها ضمن حدود 20 ميلاً بحريا من الساحل، ووقّعت السلطة الوطنية الفلسطينية عقداً لاستكشاف الغاز مدته 25 عاماً مع مجموعة بريتش غاز (BG Group (BBG)) في تشرين الثاني/نوفمبر 1999. وفي مستهل عام 1999 كانت مجموعة بريتش غاز قد اكتشفت حقل غاز شاسع (غزة مارين) على مسافة تتراوح ما بين 17 و21 ميلاً بحرياً قبالة ساحل غزة. وفي عام 2000، حفرت مجموعة بريتش غاز بئرين في حقل الغاز وأنجزت دراسة جدوى أسفرت عن نتائج جيدة»... وقد قُدّرت الاحتياطيات «بتريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي من النوعية الجيدة»، مما يؤكد إمكانية تصدير الغاز بعد تلبية الاحتياجات الفلسطينية منه.
التقرير طويل، ولكن بإيجاز شديد يؤكد أن إسرائيل تسيطر على حقول الغاز والنفط الفلسطينية، والاحتياطيات الاستراتيجية من الغاز الطبيعي الواقعة في عرض البحر منذ ما بعد العملية العسكرية على غزة سنة 2008 «دون إيلاء أي اعتبار للقانون الدولي» الذي يُحسم بإن حقول الغاز في غزة تدخل في السيادة الفلسطينية، وإن الاحتياطيات من الغاز تعود إلى الأرض الفلسطينية المحتلة.
وفي الختام أورد هنا نصاً ورد في مقدمة الدراسة، ليعبر عن رأي واقعي موضوعي لا يمكن تجاهله في قراءة هذا النوع من الدراسات العلمية، مؤكداً إنه «ليس من الممكن ولا المحبّذ فصل المنازعات والتوترات بشأن النفط والغاز الطبيعي عن سياقها السياسي، ولا عن كون الفترة التي اكتُشف فيها الغاز الطبيعي قد تزامنت مع عدد من التطورات السياسية المهمة في المنطقة: بدء الانتفاضة الثانية (أيلول/سبتمبر 2000)، والانتخابات التشريعية الفلسطينية (كانون الثاني/ يناير 2006)، وما أعقبها؛ واشتداد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة (خاصة منذ عام 2007)، وفصل قطاع عزة إدارياً عن الضفة الغربية (تموز/ يوليه 2007)، والاضطرابات السياسية الإقليمية التي تلت اندلاع انتفاضات الربيع العربي (عام 2011). وقد تداخلت هذه الوقائع السياسية مع مستجدات تعلّقت بالنفط والغاز الطبيعي في عديد من الظرفيات البالغة الدقة، وهو ما زاد في تعقيد سياق سياسي معقد أصلاً. وتجاهُل هذه التعقيدات سوف يحرِم التحليل من الاستناد إلى عناصر عديدة بالغة الأهمية».
بإيجاز شديد، تؤكد هذه الدراسة العلمية للأونكتاد إن كل المعارك والصراعات التي زُجت فيها فلسطين، منذ بداية القرن الجديد (منذ ما بعد الحرب الباردة)، أسبابها سياسية – اقتصادية، وهي من أجل السيطرة الكاملة على الموارد الفلسطينية الطبيعية الثرية، النفط والغاز، والبدء باستثمارها بالكامل لصالح دولة الاحتلال. وننتهز فرصة هذه الدراسة أيضاً لتأكيد أن كل الحروب والصراعات التي زُجت فيها المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، من العراق امتداداً إلى سوريا وفلسطين (حوض الشام)، ومصر، وليبيا، والسودان، هي بهدف الهيمنة على مواردها الثرية من النفط والغاز... والحبل على الجرار.
هذه الهيمنة على ثروات النفط والغاز، المكتشفة، واحتياطاتها الأكثر ثراءً، هي الغاية الكبرى وراء حروب بدأت في وطننا العربي باختراع الحرب على الإرهاب بعد تفجير البرجين في نيويورك (11/9/2001)، ونشر قواعد التنظيمات الإرهابية في مناطق هذه الثروات، سواء في العراق أو شمال سوريا و«حوض الشام» وغيرها، والتي باتت القوات الأمريكية تحل محلها مؤخراً باسم قوات «التحالف»، وكذلك في ليبيا والسودان واليمن.
أما ذرائع نتنياهو المعلنة (الدفاع عن النفس، ومحو حركة حماس) فما هي إلا لذر الرماد في العيون حتى اكتمال إنهاء الوجود الفلسطيني في غزة، وإلحاق القطاع بالاحتلال... ومن المؤكد، والمتوقع، إن المرحلة الأخيرة لهذه الحروب الإسرائيلية ستُخصص لإنهاء وجود السلطة الفلسطينية وإفراغ الضفة الغربية من الشعب الفلسطيني، لإكمال مشروع احتلال كامل أرض فلسطين، كي لا يًدّعي هذا الشعب يوماً بحقه في موارده الطبيعية الثرية.
هذا هو بإيجاز المشروع الإسرائيلي الذي بدأ مبكراً بإعلان «مشروع القرن»... ومن المتوقع لما بعد الحرب أن يتحول قطاع غزة إلى مرفأ نفطي إسرائيلي مهم، يخدم الموانئ الأخرى التي ستُهيأ لخدمة مشروع سكة الحديد «دلهي – حيفا» المعلن، والمشاريع الأخرى التي بدأت معالمها تتشكل في البحر الأحمر، ومنها السيطرة الأمريكية على مضيق باب المندب، بذريعة حفظ أمن المضيق من العبث الحوثي.
هذه بعض الدلائل والمؤشرات التي ترشدنا لمعالم عصر الشرق الأوسط الجديد القادم، الذي سيكون مختلفاً عما سبقه تماماً، ولكنه لن يكون أفضل منه، وعنوانه المزيد من الصراعات والحروب... وفي هذه المؤشرات كثير من الحقائق التي يضللها الإعلام، ويعمل على إخفائها عن سبق الإصرار والتعمد.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك