توفي الجندي الأمريكي آرون بوشنيل بعد أن أضرم النار في جسده على مدخل سفارة الكيان في العاصمة الأمريكية. بقدّاحة صغيرة أشعل آرون بزّته العسكرية. لم تتجاوب معه القداحة فأصرّ على قدحها مرات عدة. شهادة عن سابق تصور وتصميم.
آرون لم تحرقه داعش. حرقته إسرائيل ربيبة داعش. كان متخصصًا بالرصد التجسسي الإلكتروني. قيادته قتلت عن بُعد مئات المقاومين الذين واجهوا الاحتلال في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن وفيتنام وأفغانستان.
شهد آرون على التنسيق مع الإسرائيلي في قتل العرب. كان يتصرف بأمر الطاعة قبل أن يتمرّد على قيادته بحرق نفسه. كان بإمكانه أن يهرب من الخدمة أو أن يستقيل لكنه فضَل الموت الطوعي عن الاستقالة.
ما حدث لآرون بمثابة حرب على عقيدة غير أخلاقية. لا يمكن الاستهانة بهذا الحدث الذي هزّ المؤسسة العسكرية الأمريكية ومعها الوجدان الجَمعي للشعب الأمريكي.
الأمريكيون في مرحلة إرهاصات صحوة قد لا تأخذ اليوم طابع تمرّد الشعب على قيادته السياسية ولكن بالتأكيد وعلى ضوء تصاعد حركة الاحتجاجات في الداخل الأمريكي معطوفة على غلبة السردية الفلسطينية، بالتأكيد سيتحوّل آرون إلى رمز من رموز الوعي الجديد الذي بدأ يعصف بوجدان الشعب الأمريكي.
أبعد من حدث عادي. بداية تفكك اللوبي الصهيوني المتحكم بالقرار السياسي في دولة هي الأقوى في العالم. شبح فيتنام وأفغانستان والعراق وغزّة كان حاضرًا أمام سفارة الكيان في واشنطن. قليل من البنزين في مستوعب صغير للقهوة كان كافيًا لإشعال حرب كبيرة. حرب رفض الحرب.
شعلة حقوق الشعب الفلسطيني توهّجت باشتعال جسد آرون. صراخه وهو يصيح: «حرروا فلسطين» سيتردد طويلًا في ضمير رفاق سلاح آرون. بالطبع سيقال «بناقص جندي لا يقدّم ولا يؤخر». غير صحيح. آرون عبّر عن سرطان عقدي خبيث لا بدّ له من علاج. علاجه يكمن في التحرر من هيمنة الصهاينة على أقوى دولة في العالم. دولة فيها أرقى الجامعات وشعبها طيّب وسياستها قاتلة. طوفان الأقصى كان حاضرًا في مستوعب البنزين الذي أحرق جسد آرون.
صار آرون شهيدًا أسوة بشهداء غزّة. من تكساس الأمريكية المكلومة باستشهاد ابنها إلى خان يونس يمكن التعزية بآرون كشهيد مكتمل أوصاف الشهادة. كأنه استشهد في غزّة لا في واشنطن فحسب.
مع شهداء غزّة الذين قضوا حرقًا بنار الصهاينة قضى آرون بالنار أيضًا. عزّت به المقاومة كأحد مجاهديها. لا دين ولا جنسية ولا مذهب للشهداء. الأمريكي آرون شهيد أيضًا.
خمس وعشرون سنة كان عمر آرون. كان بإمكانه أن يعيش خمسين سنة إضافية. أن ينهي شابٌ في مقتبل العمر حياته من أجل قضية حقّ ففي هذا شجاعة استثنائيَّة. استشهاده ثقافة حياة بالتأكيد. حياة من أجل رفض الذل. من أجل حياة كريمة لا للأمريكيين فحسب ولكن أيضًا من أجل الفلسطينيين. لو قدّرَ للفلسطينيين أن يدفنوه لدفنوه شهيدًا.
مات آرون من فظاعة ما شهد عليه. عمل في القوات الجوية والدعم الاستخباراتي. التخطيط للقصف والاغتيال مرّ من المكاتب التي خدم فيها خلال حياته القصيرة. صُوّرَ له العدو على شكل عمامة أو بندقية مقاوم. تيقّن أنه يقتل الإنسان والحق بالحياة والحرية في عالمنا العربي. حتى اسمه الذي يشي بأصل يهودي لم يشفع له حتى يستمر بتصديق الكذبة. أحرق اسمه أيضًا بحرق جسده. وفاته أعطته آلاف الأسماء العربية.
لم يكن آرون جنديًا عاديًّا. كان من خيرة الجنود. عمل خصوصًا على تدريب ضميره. مظاهر القوة والبأس في الجيوش لا تكفي لتشكيل عقيدة. القوة النارية دون ضمير تحرق من يستعملها. هذا بالتحديد ما يحرق إسرائيل في فلسطين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك