خلال المقالات السابقة تناولت مواقف الأطراف الإقليمية تجاه تهديدات الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر، وقد دارت تلك المواقف جميعها حول ثلاث نقاط أولها: إن تهديد الملاحة البحرية في تلك المنطقة يمثل تحدياً هائلاً للدول كافة وخاصة أن كل الدول تعتمد على البحار في تجارتها مع العالم الخارجي وتزداد وتيرة ذلك الاعتماد وليس العكس، وثانيها: إن حماية أمن الملاحة في البحر الأحمر مسؤولية الدول المشاطئة له بما يعنيه ذلك أن أي ترتيبات مستقبلية من جانب أطراف أخرى على نحو مغاير لذلك من شأنها التأثير في منظومة الأمن الإقليمي في تلك المنطقة، وثالثها: ضرورة حل الصراعات الإقليمية التي يتم توظيف البحار فيها من خلال تهديد الملاحة البحرية ومنها الصراع في اليمن واستقرار منطقة القرن الإفريقي عموماً.
ومع أهمية تلك المواقف فإن التساؤل الذي يطرح ذاته هل توجد استراتيجية إقليمية بعيدة المدى لأمن الملاحة البحرية في تلك المنطقة؟ وواقع الأمر بالرغم من الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب للتجارة العالمية ودول المنطقة، وكذلك البحر الأحمر بالرغم من كونه يعد «بحيرة عربية» فإنه لا توجد ترتيبات أمنية شاملة للحفاظ على أمن البحر الأحمر تجاه التهديدات في تلك المنطقة، وقبيل الحديث عن ذلك لابد من تأكيد أن تهديدات الأمن البحري الراهنة لم تكن منشأة لاحتدام الموقف على هذا النحو ولكنها كانت كاشفة عن كيفية تأثر الملاحة البحرية بالمحيط الجيواستراتيجي، فإذا عدنا إلى التاريخ فسوف نجد أن السفن سواء التجارية أو الحربية لم تنج من التهديدات، إلى الحد الذي دفع المملكة العربية السعودية إلى تعليق صادراتها النفطية عبر ذلك المضيق بشكل مؤقت في يوليو عام 2018 بعد استهداف ناقلتين سعوديتين محملتين بالنفط الخام وغيرها من حوادث الاعتداء على السفن التجارية قبل انفجار الموقف على هذا النحو في الوقت الراهن حيث توجد حالات استهداف بشكل يومي، وعلى صعيد استهداف السفن الحربية كان الحادث الأبرز هو استهداف تنظيم القاعدة المدمرة الأمريكية كول عام 2000 حيث كانت ترسو في ميناء عدن اليمني من أجل التزود بالوقود وتم استهدافها من جانب شخصين على متن زورق مطاطي يحمل 200 كجم من المتفجرات وأسفر الحادث عن مقتل 17 بحاراً أمريكياً وإصابة 39 آخرين والأمثلة عديدة ولكن النتيجة واحدة وهي أن الممرات المائية تواجه مخاطر بشكل مزمن، حتى بافتراض أنه لا توجد تهديدات أمنية وشيكة فإن هاجس الدول لإيجاد منفذ بحري لها كان سبباً في صراعات ممتدة بين الدول ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر توقيع إثيوبيا اتفاقا مع أرض الصومال في يناير 2024 يتضمن- وفقاً للمصادر- استئجار إثيوبيا «الدولة غير الساحلية» 20 كم حول ميناء بربرة على خليج عدن بما يتيح لها إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر وذلك مدة 50 عاماً للأغراض التجارية، وكان رد فعل الصومال على ذلك توقيع اتفاق دفاعي مع تركيا يتضمن دعم الأصول البحرية للصومال، وذلك على سبيل المثال لا الحصر بأن البحار بقدر ما فيها من فرص للتعاون كونها مجالاً لنقل السلع والبضائع وما تحتويه كذلك من ثروات هائلة فإنها ستظل مجالاً للصراع والتنافس حتى مع وجود إطار قانوني دولي ينظم حقوق الدول البحرية المتمثل في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982، فالمسألة هي من يلزم الدول بتطبيق القانون الدولي؟ فمثلاً في بعض مناطق العالم توجد اتفاقات بين الدول المشاطئة للمضائق حول كيفية تنظيم الملاحة البحرية فيه ولا يوجد هذا الأمر بالنسبة إلى مضيق باب المندب بالرغم من أهميته للتجارة الدولية وتأثير تهديد الملاحة البحرية فيه على كل من البحر الأحمر ومن ثم قناة السويس.
فهل يعني ما سبق أن الأطراف الإقليمية المعنية أو بالأحرى التي تتأثر بتهديدات الأمن البحري سوف تتعامل مع تلك التهديدات كنوع من رد الفعل دون وجود استراتيجية أو رؤية بعيدة المدى لأمن الملاحة البحرية في تلك المنطقة؟
وقبيل الإجابة عن ذلك التساؤل لابد من تأكيد أن باب المندب كغيره من الممرات المائية الثمانية في العالم يواجه صراعات وتنافسا من جانب الدول المحيطة به ولكن في تصوري أن الدول المشاطئة للبحر الأحمر والتي تعتمد على مضيق باب المندب يتعين عليها التفكير في استحداث آليات إقليمية ليس فقط لأمن الملاحة البحرية ولكن للأمن الإقليمي ضمن الإطار الأوسع لسبب أساسي مؤداه أن المسألة ليست فقط أمن الملاحة البحرية ولكن تنفيذ مشروعات تنموية واعدة تحتاج إلى جذب الاستثمارات الأجنبية بالإضافة إلى اعتماد بعض الدول على الممرات كمصدر للدخل القومي كما هو الحال بالنسبة إلى قناة السويس في مصر.
ومع الأخذ بالاعتبار أن هناك جهودا من جانب دول حوض البحر الأحمر لتطوير قدراتها البحرية ومن بينها مصر والمملكة العربية السعودية بما ينعكس في الوقت ذاته على الجهود الجماعية لمواجهة تهديدات الأمن البحري فإن هناك صيغا يمكن تطويرها كإطار عمل جماعي لمواجهة تلك التهديدات في باب المندب وأيضاً للتنسيق بشأن الخطط التنموية لتلك الدول ومنها تجمع الدول المطلة على البحر الأحمر الذي تأسس ويضم ثماني دول كمبادرة سعودية عام 2020م وفي تصوري أن تلك الآلية مهمة للغاية في ظل ثلاثة مؤشرات سوف يكون لها انعكاس على المدى البعيد على منظومة الأمن الإقليمي في تلك المنطقة الأول: زيادة الوجود الأجنبي في محيط مضيق باب المندب بما يعنيه ذلك من تأثير على توازن القوى الإقليمي سواء تم التعبير عن ذلك بمصطلحات مثل «عسكرة البحر الأحمر» أو «تدويل الملاحة» وغيرها من المصطلحات ولكن الأثر النهائي واحد، والثاني: تأثير الصراعات الإقليمية على الأمن البحري سواء الراهنة مثل اليمن أو المستجدة من خلال تحالفات وتحالفات إقليمية مضادة، والثالث: زيادة وتيرة تهديدات الجماعات دون الدول للأمن البحري وخاصة من خلال توظيف التكنولوجيا الحديثة ومن ذلك استخدام جماعة الحوثي مسيرة «درونز» تحت الماء وللمرة الأولى والقدرة على إسقاط مسيرة أمريكية متطورة للغاية في 20 فبراير 2024 بما يعنيه ذلك من أن التكنولوجيا سوف تتصدر مشهد تهديدات الملاحة البحرية ما بين الدول والجماعات دون الدول.
ويعني ما سبق أن التفكير في استراتيجية إقليمية للحفاظ على أمن الملاحة البحرية يجب ألا تقتصر على عمل وقتي بسبب احتدام التهديدات في الوقت الراهن ولكن يجب أن تمثل ضمانة دائمة للحفاظ على الأمن الإقليمي في تلك المنطقة بما يعكس مصالح وأولويات دولها.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك