بحضور خمسين من رؤساء الدول والحكومات، بالإضافة إلى أكثر من مائة وزير وشخصيات عالمية، عُقد مؤتمر ميونخ للأمن في الفترة من 16-18 فبراير2024، وكان من بين أبرز الحضور نائبة الرئيس الأمريكي «كاميلا هاريس»، ووزير الخارجية «أنتوني بلينكن»، ووزير الخارجية الصيني «وانغ يي»، والأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريس»، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ينس ستولتنبرغ»، ورئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين»، بالإضافة إلى وفد كبير من الشرق الأوسط ضم وزراء خارجية كل من السعودية الأمير «فيصل بن فرحان»، وقطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ومصر «سامح شكري»، والأردن «أيمن الصفدي».
ومنذ الاجتماع الأول عام 1963، أصبح المؤتمر أحد أهم اللقاءات للقادة العالميين ومسؤولي السياسة الخارجية، حيث يعد منصة للمناقشات المفتوحة والبنّاءة. وأشارت «ليز دوسيت»، من «هيئة الإذاعة البريطانية»، إلى أن شرط حضوره هو «المشاركة والتفاعل، لا إلقاء المحاضرات أو التجاهل». وفي السنوات الأخيرة، برزت أهميته حيث أصبح منصة عالمية تشارك فيه العديد من الدول، كالصين، والهند، والبرازيل، بالإضافة إلى دول الشرق الأوسط.
وفي نسخته الـ60، تصدرت أجندته العديد من التحديات الأمنية العالمية، مثل «حرب غزة»، و«الأزمة الأوكرانية»، و«احتمالية عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025». وعلى الرغم من إجراء أكثر من 50 حلقة نقاشية والعديد من الخطابات والمقابلات؛ أكد «روبي جرامر»، و«جاك ديتش»، في مجلة «فورين بوليسي»، أهمية ما يدار داخل كواليس الاجتماعات الخاصة والمغلقة والسرية بين السياسيين والسُفراء والقادة العسكريين ورؤساء المخابرات، حيث تعد بالنهاية جوهر المؤتمر.
ووفقاً للباحثَين، طُرحت «ثلاثة أسئلة رئيسية» خلال المؤتمر هيمنت على جدول الأعمال، هي: «ماذا تعني ولاية ثانية لترامب بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا»؟، و«ما إذا كانت كييف لا تزال قادرة على الصمود في وجه العملية العسكرية الروسية»، و«ما إذا كان لا يزال هناك أي مخرج بشأن الصراع في الشرق الأوسط، في ضوء أن إسرائيل عاقدة العزم على تصعيد الحرب من خلال شن هجوم واسع النطاق على مدينة رفح.
وكما حدث في «المنتدى الاقتصادي العالمي»، في «دافوس» يناير الماضي، لم تُوجه دعوة لحضور كل من الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، والروسي «فلاديمير بوتين»، وبالنظر إلى كون الأخير شخصًا غير مرغوب فيه أوروبيا بسبب حربه في أوكرانيا؛ فقد رأى «جرامر»، و«ديتش»، أنه «لم يكن من المستغرب عدم دعوته». ومع ذلك، أوضح «ديفيد سانجر»، و«ستيفن إيرلانجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه بالرغم من غيابه، فإن انتصارات «موسكو»، مؤخرًا في الحرب، وضعف الدعم لكييف من الحكومات الغربية؛ قد ألقى بظلال من «القلق والاضطراب» على المؤتمر، فضلًا عن تحول المناقشات بشأن المدة التي يمكن للأوكرانيين أن «يصمدوا فيها»؛ وليس ما إذا كان بإمكانهم تحقيق النصر في نهاية المطاف.
ويرتبط هذا السؤال ارتباطًا وثيقًا بـ«ترامب»، حيث إن مسألة عودته إلى البيت الأبيض كان وفقًا لصحيفة «واشنطن بوست»، «مُسيطرا على الأحاديث وراء الكواليس أكثر من ذي قبل». وأثارت التصريحات الأخيرة التي أطلقها، بشأن «تشجيعه روسيا على مهاجمة أعضاء الناتو ممن لا يدفعون تكاليف الدفاع عن أنفسهم قلقا بالغاً». وانتقده «ستولتنبرغ»، علنا لتقويضه مصداقية الحلف. وعلى الرغم من محاولة «هاريس»، طمأنة حلفاء «واشنطن»، باستمرار التزام بلادها بقضية الأمن الأوروبي من خلال تصريحها بأنه «لا يمكن لأمريكا أن تتراجع» عن دعمهم؛ فإن أحدا لم يعتريه شك في عدم قدرتها على الوفاء بوعدها إذا أطاحت بها نتيجة التصويت خارج أروقة السلطة، وحينئذ سيتحتم عليهم مواجهة أربع سنوات أخرى من المطالب والتهديدات والمواجهة من إدارة ترامب الثانية.
وبالإضافة إلى تركيز هذه المخاوف على أوروبا؛ فإن «الحرب الإسرائيلية على غزة»، كان من المستحيل تجاهلها. ويُظهر تعهد إسرائيل بمواصلة حربها على المدنيين الفلسطينيين رغم النداءات الدولية المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية؛ استمرار الانفصال بين دول الغرب وبقية العالم.
وفي ميونيخ، واصل المسؤولون الأمريكيون التعبير عن دعمهم لأهداف الحرب الإسرائيلية في غزة. وأكد «بلينكن»، أن دعم بلاده «الثابت» لإسرائيل لا يزال «قائمًا». وعلى الرغم من إدراك «هاريس»، أنه لا يمكن إعادة احتلال غزة أو ضمها؛ فلا يزال هؤلاء المسؤولون يرفضون الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وإدانة إسرائيل لإيقاعها خسائر كبيرة في المدنيين، وعدم الإشارة إلى خططها لإجبار الفلسطينيين على النزوح، كما فعلت في حربي 1948 و1967.
ويأتي تحفظ المسؤولين الأمريكيين على التعليق على الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، «تكرارًا»، لما قامت به الدول الأوروبية. وفي حين انتقد الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، ووزيرة الخارجية الألمانية «أنالينا بيربوك»، مؤخرًا خطط إسرائيل لمهاجمة رفح وتحذيرهما من الكارثة الإنسانية الناجمة عن ذلك؛ فلم يحضر الأول المؤتمر، ولم تُدلي الثانية بأي بيان آخر حيال ذلك، في حين ركز وزير الخارجية البريطاني «ديفيد كاميرون»، اهتمامه حول الشرق الأوسط، على «الوضع الأمني بالبحر الأحمر»، خلال مناقشاته مع ممثلي الصين.
وعلى النقيض فإن التزام المسؤولين الغربيين الصمت حول مواصلة إسرائيل حربها في غزة، يعكس فشلهم في الالتزام بمعايير القانون الدولي؛ فقد انتقد مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، «جوزيب بوريل»، تدمير إسرائيل لقطاع غزة، ورفضها الانصياع للحل السلمي، مؤكدا أنه لا يمكن أن يتحقق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين من خلال أعمال العنف. علاوة على ذلك، لم يشدد على أهمية وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة؛ للتخفيف من حجم المعاناة فحسب، لكن أيضًا على «الحاجة إلى معالجة الأوضاع بأكملها في الأراضي الفلسطينية المحتلة»، مشيرا إلى أن استمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية، هو «العائق الحقيقي أمام حل الدولتين»، موضحا أن أمنها لن يتم ضمانه بالوسائل العسكرية وحدها»، وأنه «دون منظور واضح لتحديد مصير الشعب الفلسطيني» لن يكون هناك «سلام في الشرق الأوسط».
وردًا على إصرار الرئيس الإسرائيلي «إسحاق هرتسوغ»، في ميونخ على أن بلاده يجب أن «تنتهي من القضاء على حماس»، أوضح مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أن الحركة أصبحت «فكرة متأصلة» من غير الممكن «قتلها»، كما ينوي الإسرائيليون، وبالتالي، من الأهمية القصوى «توفير بديل أفضل» لأمن الفلسطينيين والإسرائيليين على المدى الطويل. وتتوافق هذه الأفكار مع ما قاله وزير الخارجية الأردني «أيمن الصفدي»، من أنه «لا يمكن لإسرائيل أن تحظى بالأمن ما لم يتمتع الفلسطينيون به».
واستمرارا، دعا «بوريل»، الدول الأوروبية إلى دعم خطة السلام العربية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة تضم الضفة الغربية وقطاع غزة، مضيفا أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون «أكثر اتحادًا»، إذا أراد أن يكون له أي «دور جيوسياسي في هذه القضية»، منتقدًا في الوقت ذاته «تشتت الرؤى» تجاه الكارثة الإنسانية في غزة ورغبة عدد من دوله ممارسة سياسة أحادية فيما يتعلق بمستقبل فلسطين، في إشارة إلى كيفية استمرار العديد منها رفض الانضمام إلى دعوات وقف إطلاق النار، أو حتى الضغط على إسرائيل لتنفيذه.
ومع إشارة «مارك جونينت»، من «معهد كوينسي لفن الحكم»، إلى ازدواجية المعايير الغربية، بشأن الصراعات المتزامنة في كل من «أوكرانيا»، و«غزة»؛ فقد حذر «جرامر»، و«ديتش» أيضًا بأنه في حين كان هناك «شعور حقيقي»، بين المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين بأن بقية دول العالم يجب أن تتكاتف «عندما يتعلق الأمر بعزل روسيا بعد حربها في أوكرانيا»، فإنهم أصبحوا الآن «محل انتقاد العالم»؛ بسبب دعمهم المستمر للحرب الإسرائيلية على غزة.
وفي ضوء هذه المعايير المزدوجة، خلص «جونينت»، إلى أنه مع انتهاء مؤتمر ميونيخ للأمن لعام 2024، فإن المشاكل الشائكة عالميا، بما في ذلك القضيتان «الفلسطينية»، و«الأوكرانية»، ستظل دون حل، وأنه من غير المعقول أن نتوقع من قمة واحدة فقط تسهيل عملية السلام في كلتيهما، كما أن حقيقة أن «مجلس الأمن»، بمثابة «نادي مغلق»، لحلفاء وشركاء الغرب يثير شكوكا حول مدى تأثيره الذي يمكن أن يمارسه كأداة لفرض السلام.
وفي المؤتمر، شجب الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريس»، «آليات الحوكمة العالمية الراهنة»، التي تعمل على «ترسيخ الانقسامات وتأجيج حالة السخط»، بدلا من حل المشاكل والأزمات في الوقت الذي باتت فيه إسرائيل تتصرف «من دون مساءلة» على المسرح العالمي. فيما كان لافتا للنظر، كيف تلقى الوفد الإسرائيلي بقيادة «هرتسوغ»، دعوة من المنظمين للحضور في حين أن حكومتي روسيا وإيران لم يسمح لهما بذلك. وأوضح رئيس المؤتمر «كريستوف هيوسجن»، أن السبب في ذلك هو أن «موسكو»، و«طهران»، لم تكونا منفتحتين على إدارة حوار هادف بشأن قضيتهما.
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية متهمة أمام «محكمة العدل الدولية»، بارتكاب «جرائم حرب»، و«إبادة جماعية»، وتم اتهامها على نطاق واسع بارتكاب الانتهاكات اللاإنسانية، والتصعيد المتعمد للحرب العسكرية من قبل الدول ومنظمات حقوق الإنسان العالمية؛ فقد سُمح لها بالحضور وإسماع صوتها أمام العالم. ومن هذا المنطلق، فإن عدم وجود انتقادات رفيعة المستوى لتصرفاتها في قطاع غزة في مؤتمر ميونيخ من قبل المسؤولين الغربيين، يتناقض مع تلك التي تم الإعراب عنها بقمة «الاتحاد الإفريقي»، في إثيوبيا، حيث شجب الرئيس البرازيلي «لويز إيناسيو لولا دا سيلفا»، الحرب الإسرائيلية على أنها كانت بين «جيش على درجة عالية من الاستعداد من ناحية، ونساء وأطفال من ناحية أخرى».
وبالتالي، فإن الانتقادات التي وجهها رئيس المجلس الأمريكي «ستيفن سوكول»، حول ألمانيا، إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كانت جراء ردود الفعل الأوروبية والأمريكية حيال الحرب في أوكرانيا، والتي افتقرت إلى الإلحاح وعدم الوضوح، بشأن «المسار إلى الأمام»، إلى جانب غياب «التضامن الدولي»، في حالة الحرب الإسرائيلية ضد غزة. وعلى الرغم من تصريحات «بوريل»، التحذيرية، وحديث الوزير القطري الشيخ «محمد بن عبد الرحمن آل ثاني»، أيضًا عن أن المحادثات بشأن وقف إطلاق النار «لا توحي بالتفاؤل»؛ بسبب تعنت حكومة «بنيامين نتنياهو»، تجاه السلام، وضرورة قيام دولة فلسطينية لتحقيق هذه النتيجة؛ فقد أعرب «جرامر»، و«ديتش» عن أسفهما حيال ظهور «إدارة بايدن»، بصورة غير ملتزمة بفرض «حل بعيد المدى»، و«محاولة تحويل الأزمة إلى فرصة لتجديد اتفاق السلام في الشرق الأوسط»، و«اعتماد مسار يتسم بالمصداقية»، لمحاسبة إسرائيل واحترام القانون الدولي، وحقوق الإنسان على حد سواء. على العموم، أبرزت نتائج عمل مؤتمر ميونخ للأمن 2024، «ازدواجية المعايير الغربية»، في ردود أفعالها تجاه حرب روسيا في أوكرانيا، مقابل ما تقوم به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث برزت هذه الازدواجية بشكل صارخ عند محاسبة الأولى جراء انتهاكاتها، فيما تم تجاهل الفظائع، والخروقات والانتهاكات، وجرائم الحرب، التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة ليل نهار، الأمر الذي حطم بلا شك ما تبقى من مصداقية دولية لحكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا وغيرها من الدول الأخرى، فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وحق تقرير المصير، كما أبرزت الارتباط الوثيق بين أمن منطقة الشرق الأوسط، وبين إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك