إن علاقة الإنسان بالآلات علاقة تاريخية، صنعها الإنسان لتلبي احتياجاته الخاصة بحسب نوع التكنولوجيا المتاحة في وقته الزمني. وتتجلى التغييرات في هذه العلاقة من خلال الثورات الصناعية المتتالية وكذلك التغييرات في نماذج التصنيع المختلفة. وبعد الثورة الصناعية الثالثة التي اندفعت بقوة الوقود الاحفوري، جاءت الثورة الصناعية الرابعة مجهزة بتقنيات تكنولوجية متقدمة كالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأتمتة وغيرها من التقنيات المتقدمة في القرن الواحد والعشرين.
ويذكر العالم الاقتصادي لودفيج فون ميزس، الذي ولد في حقبة الثورة الصناعية الثانية (1870-1918)، أن الآلات ضرورية في زيادة إنتاجية الأعمال. ففي كتابه «العقلية المعادية للرأسمالية» يذكر أن «الزيادة فيما يسمى بإنتاجية العمل ترجع إلى توظيف أدوات وآلات أفضل». ولا شك أن الآلات والتكنولوجيا المتقدمة أسهمت في رفاهية الإنسان وتحسين إنتاجيته في العمل. واليوم، أسهمت حلول الذكاء الاصطناعي في رفع معدلات الإنتاجية والربحية في عديد من القطاعات الاقتصادية في شتى المجالات كالفضاء، والزراعة، والقطاع العسكري، والصحة، والتعليم، والتجارة الإلكترونية، وغيرها الكثير.
وفي نفس الوقت، يحذر عديد من الخبراء وأصحاب الأعمال من أن الاعتماد الهائل على حلول الذكاء الاصطناعي قد يشكل خطرا وجوديا للبشرية، لأن هذه التقنيات سوف تستبدل وظائف الأنسان وتحل محله، وخصوصا أن هذه التقنيات يمكن لها أن ترفع الانتاجية والدقة بصورة أكبر من العمل البشري. والسؤال هنا: هل فعلاً يمكن أن يسبب الذكاء الاصطناعي تهديدا وجوديا للإنسان من الناحية الوظيفية؟
عبر الزمن، كان هناك خوف من توظيف الآلات محل الإنسان بسبب زيادة الإنتاجية التي تمتاز بها الآلات عن الإنسان، وكان هذا مصدر قلق كبير للمزارعين وعمال المصانع وغيرهم. وفيما يتعلق بتقنيات الذكاء الاصطناعي، فإن لها تأثيرا كبيرا على الإنتاجية في العمل ويمكن أن يستبدل العديد من الوظائف في المستقبل، ولكن هذه المرة ليس في المصانع والمزارع، بل في كل المجالات والقطاعات كقطاعات الصناعة والخدمات. فيُعتقد بذلك أن هذه التقنيات ستشكل خطرا من خلال إزاحة الوظائف لأنها ستؤدي أدوارا أفضل من المهام التي يقوم بها الإنسان ولكن بفعالية ودقة أكبر. فعلى المدى القريب، قد يؤدي ذلك إلى اضطراب اقتصادي، وبطالة، واتساع عدم المساواة في الدخل. ولكن يختلف الأمر على المدى المتوسط والبعيد.
فعلى المدى المتوسط والبعيد، وخصوصا في عالمنا الرقمي سريع التطور، يحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في سوق العمل من خلال خلق فرص عمل وتخصصات جديدة لم يكن من الممكن تصورها في السابق. مع استمرار تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي. فمثلاً، عندما ظهرت تقنيات الذكاء الاصطناعي، ظهرت معها وظائف جديدة مثل علماء أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وعلماء البيانات، والمتخصصين في الأتمتة والتعلم الآلي والعميق، وغيرها الكثير من الفرص التي ظهرت مع هذه التقنيات. كما يوفر للأفراد فرصة لاستكشاف مسارات وظيفية فريدة. ولا يسهم هذا التوسع فقط إلى تنويع القوى العاملة وزيادة إنتاجيتها وفعاليتها، بل يسهم أيضا في النمو الاقتصادي من خلال الاستفادة من إمكانات الابتكارات القائمة على الذكاء الاصطناعي. وتستفيد الشركات من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتبسيط العمليات وتعزيز الإنتاجية وتقديم تجارب مخصصة للعملاء، مما يؤدي في النهاية إلى زيادة الربحية والنمو المستدام.
يسهم دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات في إعادة تشكيل ديناميكيات السوق، وتزويد الشركات بميزة تنافسية ودفع التوسع في الأسواق. ونظرا لأن الذكاء الاصطناعي يصبح أكثر رسوخا في العمليات التجارية، تشهد المؤسسات تحسنا في الكفاءة وخفض التكاليف وزيادة القدرة التنافسية في السوق. تمهد العلاقة التكافلية بين الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية الطريق لعصر جديد من الابتكار والتعاون والنمو في مشهد السوق العالمي. لذا، فإنه على الرغم من المخاطر التي تدور حول هذه التقنيات والتي لابد من معالجتها في الحاضر، إلا أن تبني هذه التقنيات سيسهم في زيادة الابتكار، ونمو الصناعات، وتعزيز خلق وظائف المستقبل، والنمو الاقتصادي المستدام.
{ مركز البحرين للدراسات
الاستراتيجية والدولية والطاقة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك