الاحتلال يعلم أن رفح تكتظ بالنازحين وأن الاجتياح البري يعني ارتكابه سلسلة مذابح ومجازر، وهو يعلم تضاريس المدينة ومساحتها الضيقة، ويعلم ما يحاصرها وما يكبلها، لكنه يواصل دمويته غير آبه بكل النداءات والدعوات، مستعدًا لكل الاحتمالات، ضاربًا كل شيء بعرض الحائط، مستمرًا في إبادته التي يرتكبها منذ بدأت الحرب على غزة، فما الذي سيمنع الاحتلال ويدفعه ليوقف مسلسل جرائمه، ومن ينقذ رفح المكتظة بالنازحين من مأساوية المشهد الذي ينتظرها.
حكومة نتنياهو ماضية في مخططها الدموي، وهي تواصل حربها، ممعنة بارتكاب المزيد من جرائم الإبادة، ومستمرة في عمليات الانتقام.
يقال إن الرئيس الأمريكي جو بايدن طالب نتنياهو في اتصال هاتفي بتوخي الحذر في اجتياح رفح، لكن الأخير رفض مدعيا أنه لا يمكن وقف الحرب أو تهدئة عملياتها ولن يكون في صالح الحرب.
أمريكا تعلم أن دخول جيش الاحتلال إلى رفح سينتج عنه المزيد من المذابح والمجازر وهي عملية دموية، من ألفها إلى يائها، ولهذا أخذت موقفًا منها كما يرشح، لكنها غير جادة في مطالباتها، إذ إنها لم تتخذ خطوات عملية للجم نتنياهو وأركان حربه.
أمريكا التي انصهرت مع الحرب من اليوم الأول، وكانت أول من دعم الاحتلال بالعتاد والسلاح وفتحت جسورًا من الامداد، ووفرت الغطاء السياسي الدولي والدعم الكامل، لا تزال تدعم الاحتلال وهي لم تتخذ موقفًا بضرورة وقف الحرب، فهي الوحيدة التي إن شاءت أن تتوقف الحرب لتوقفت، ويتوقف العدوان، ومسلسل الجرائم وتتوقف الإبادة الجماعية، وبالتالي سيضطر الاحتلال إلى الموافقة ملتزًما بقرارات أمريكا، فهو لا يقوى على عدائها، بيد أنها حتى اليوم، تمارس الدعم والرعاية وهذا يعني موافقة ضمنية على استمرار الحرب حتى رفح، وإن بدت بعض الخلافات بين نتنياهو وبايدن تطفو على السطح.
لقاء باريس الذي جاء على مستوى رفيع، كان يمكن أن يحقق الرغبة بوقف الحرب، حيث كان صوت إتمام الصفقة عاليًا، وكنا نراهن عليها، كون الاتفاق على وقف الحرب وحده الذي كان سيمنع استمرار الكارثة واستمرار حرب الإبادة، ولكن نتنياهو الذي عارض صفقة التبادل وعارض اتفاق باريس، يصر على مواصلة حربه، ويسعى لاتساع رقعتها حتى لو كانت المحاذير نشوب حرب إقليمية.
نتنياهو الذي ضرب كل المواثيق الدولية والإنسانية وكل الأعراف الأخلاقية، لن يتردد في ضرب بعض معاهدات السلام مع دول الجوار، ولن يوقف حربه إثر التهديدات المصرية الرافضة لمخططات التهجير، فالواقع على أرض غزة صعب وفي رفح مأساوي وهو ينذر بكارثة تنتظر مليونا ومئتي ألف من النازحين وسط ظروف قاهرة والموت يتربص بهم من كل الجهات .
وبينما يواصل الاحتلال حربه على غزة، ويواصل عدوانه الآثم، ويرتكب المذابح والمجازر، تقف غزة في وجهه كالعنقاء التي لا يمكن أن تموت، بل تصمد بثبات وتواصل صبرها لتخرج إلى الحياة وتعود مرة أخرى، وتنجو من ويلات الحرب.
غزة التي تحتمل ظروف ومعاناة حرب الإبادة، وتحديات الجوع والقتل والتدمير والهدم، وكل ما حدث ويحدث لها من ويلات، لم تعد تراهن على الصوت الدولي ولا الصوت العربي، وقد واجهت العدوان وحدها طيلة ما مضى، حيث اصطف العالم عاجزًا عن إدخال المساعدات وحتى عجز عن إيصال شربة ماء. فيحق لغزة أن تلومنا وأن تعتب علينا وأن تلعن عجزنا وضعفنا، ولا يحق لنا أن نتركها لتواجه مصيرها المبهم وحدها.
أن تترك غزة لمواجهة مصيرها ما بعد الحرب، أخطر ما يمكن أن ينتظرها، في واقع الخراب الذي حل والكارثة التي حدثت، والدمار الهائل الذي ضربها في كل مفاصل الحياة، وهذا ما لا تقدر عليه وحدها في هذه الحرب.
غزة التي صبرت واستطاعت الصمود وحدها في وجه العدوان خلال أكثر من أربعة أشهر، وهي مستمرة بالثبات، رغم الواقع الصعب والحصار المطبق والخراب الكبير ورغم فصول الحرب المستعرة التي لم تنته، إلا أن الخوف هو أن يعتاد البعض على الصورة، فتتضاءل قوة التضامن وتتراجع عمليات الدعم والمناصرة، وهذا الفتور مخيف في ظل استمرار الحرب والعدوان، وفي ظل استعداد الاحتلال لاجتياح دموي لرفح. كما أن الأمر الذي يخيف أكثر هو أن تدخل غزة المصير المبهم، كلما تراجعت صورتها في الأخبار ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وكلما تراخى البعض وتراجع حظها في الحضور.
تراجع حضور غزة ليس من باب الصدفة، وليس لأن العدوان توقف، أو أن المقاومة انتهت، أو أن الاحتلال تراجع وانسحب، ولكن يبدو أن لدى البعض سياسة جديدة تجاه غزة، وهذا خطر وجب الالتفات إليه، مع ضرورة عدم التراخي والفتور في ظل استمرار الحرب والعدوان، وهذا واجب لا يسقط، ولا بد أن تبقى غزة حاضرة كل الوقت وألا تغيب أو تُغيّب، عن قصد أو من دون قصد وخاصة مع تزايد احتمالات قيام الاحتلال بشن عدوانه الدموي على رفح بهدف فرض مخططات تهجير سكان غزة على الجميع بما سيعني وقوع نكبة جديدة للشعب الفلسطيني ربما تفوق نكبة 1948.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك