الطامة الكبرى التي تنجم عند العيش في بيئة ملوثة لا تقتصر على أن الإنسان عندما يستنشق أو يتعرض للهواء الملوث يسقط هو نفسه فقط في شباك الأمراض الحادة والمزمنة، وإنما تكمن المصيبة العصيبة في أن التعرض للهواء الملوث، وخاصة المرأة الحامل، يعني أن هذه الملوثات تنتقل من هذه الأم إلى جنينها في هذا الجيل، ومع الوقت تنتقل إلى الأجيال اللاحقة.
وبعبارةٍ أخرى، فإن المرأة الحامل لا تورِّث جنينها الجينات الوراثية فحسب، وإنما تورثهم في الوقت نفسه خليطاً معقداً من الملوثات المسرطنة والسامة والخطرة الموجودة في الهواء الجوي، سواء في داخل المنزل من التدخين، والفرن المنزلي، والمبيدات والبخاخات الشخصية، أو في الخارج من المصادر التي لا تعد ولا تحصى، من سيارات، ومصانع، ومحطات توليد الكهرباء وغيرها. فهذا يؤكد أن تأثيرات وانعكاسات تلوث الهواء لا تقع فقط على الشخص نفسه في هذا الجيل الحالي، ثم تنتهي أضراره ومردوداته الصحية الخطرة بعد أن تقضي على الشخص نفسه رويداً رويداً، وإنما تتخطى وتتعدى حدود هذا الجيل، فتنزل في الوقت نفسه وتنتقل إلى الأجيال المستقبلية التي تأتي من بعدنا، ولا يعلم أحد عند أي جيل يقف هذا التأثير ويختفي هذا الضرر كلياً.
فآخر دراسة نُشرت حول هذه الظاهرة البيئية الصحية العابرة للأجيال صدرت في 25 يناير 2024 في مجلة «شؤون الصحة البيئية» (Environmental Health Perspectives) تحت عنوان: «التعرض قبل الولادة لتلوث الهواء وضيق التنفس عند الأطفال حديثي الولادة». وهذه الدراسة فريدة من نوعها وتختلف في استنتاجاتها عن الدراسات السابقة في هذا المجال البحثي، حيث إن الأبحاث الطبية السابقة أكدت من قبل أن العيش في بيئة غير صحية مشبعة بالملوثات تؤدي إلى ولادة أطفال يعانون من أمراض مزمنة في الجهاز التنفسي ويعانون طوال حياتهم من الربو، أو ضيق التنفس.
ولكن الدراسة الحالية أفادت بأن تعرض الأم الحامل للملوثات في الهواء الجوي يزيد من مخاطر المشكلات في الجهاز التنفسي عند الجنين والطفل المولود حديثاً بشكلٍ فوري، أي أن الانعكاسات الصحية التنفسية الحادة تنكشف مباشرة على الطفل بعد الولادة. وهذه المخاطر التي يقاسي منها الطفل المولود ترتفع عند استنشاق بعض الملوثات بصفةٍ خاصة مثل الدخان، أو الجسيمات الدقيقة، وثاني أكسيد النيتروجين. وتصل درجة تأثير هذه الملوثات على الطفل الرضيع بعد ولادته مباشرة أنه ينقل إلى الطوارئ ووحدة العناية المركزة لكي يتلقى الطفل مباشرة العناية اللازمة الناجمة عن ضيق التنفس، كحاجة الطفل الضرورية الوجودية إلى العلاج بالأكسجين، أو التهوية الميكانيكية، أو جرعات من المضادات الحيوية.
وهذه الدراسة أُجريت في عشر مدن كندية وشملت العينة 2001 امرأة حامل، وغطت المدة الزمنية لمراقبة الأم الحامل صحياً وبيئياً بدءاً بالثلاثة أشهر قبل الحمل، ثم فترة الحمل كلها. كما قامت الدراسة بقياس تعرض عينة الدراسة من النساء الحوامل لنوعين من الملوثات، الأول هو الدخان، أو ما نُطلق عليه علمياً بالجسيمات الدقيقة، حيث تعرضن لتركيز تراوح بين 1.47 إلى 23.71 ميكروجرام من الجسيمات الدقيقة لكل متر مكعب من الهواء الجوي خلال فترة الدراسة، علماً بأن المواصفات الكندية هي أن الحد الأعلى للدخان يتراوح بين 9 و10، والملوث الثاني هو غاز ثاني أكسيد النيتروجين الذي تراوح تركيزه من 1.72 إلى 53.1 جزءا في البليون، والمواصفة لجودة الهواء بالنسبة لهذا الغاز هي 53 جزءاً في البليون. ولذلك من الواضح أنه على الرغم من أن عينة الدراسة من النساء الحوامل لم تتعرضن لمستويات مرتفعة جداً من الملوثات في الهواء الجوي، إلا أن التأثير كان واضحاً على الأطفال الذين ولدوا، وبالتحديد من ناحية المشكلات التي كانوا يعانون منها في الجهاز التنفسي، وهذا يؤكد أن للملوثات تأثيراً يتجاوز المواصفات والمعايير الخاصة بجودة الهواء، أي أن الملوثات تسبب للإنسان مشكلات صحية حتى لو كانت بنسب منخفضة جداً.
جدير بالذكر، أن هناك كوارث بيئية صحية وقعت في بعض دول العالم في مقدمتها اليابان التي نزلت عليها عدة كوارث قاتلة للبشر، وخاصة في الخمسينيات من القرن المنصرم عندما بدأت سريعاً وبخطى كبيرة ومتعجلة في عملية النمو من جديد. وهذه الكوارث لقَّنتْ الإنسان الياباني خاصة وكل البشر حول العالم دروساً وعبرا قاسية من المفروض ألا ينسوها أبداً، وكل هذه الدروس أكدت أن بعض الملوثات لا تتحلل ولا تتغير هويتها عندما يسمح لها الإنسان بالدخول في أحد مكونات البيئة، فتتراكم فيها مع الوقت ويرتفع تركيزها عبر السلسلة الغذائية حتى تبلغ الإنسان وقد وصلت مستوياتها إلى درجة حرجة جداً، فإما أن تقضي عليه مباشرة فتنقله فوراً إلى مثواه الأخير، وإما أن تصيبه بأمراض عضال مستعصية على العلاج. كما علمت هذه الكوارث درساً آخر للإنسان وهو أن بعض هذه الملوثات التي دخلت في جسم المرأة الحامل تنتقل إلى جنينها أثناء الحمل فتورث هذا الطفل البريء هذه الملوثات، وفي الوقت نفسه تورثه المرض العضال والإعاقات العضوية الجسدية. ومن أشد الكوارث وطأة على المجتمع الياباني والإنساني برمته هي كارثة تلوث بحيرة مينماتا بالزئبق وإصابة الناس بمرض غريب ومخيف أُطلق عليه مرض مينماتا. وعلى الرغم من أن هذا المرض نزل على اليابان قبل أكثر من ستين عاماً، فإن المرض مازال موجوداً وحياً ينبض بالحياة في المجتمع الياباني.
ولذلك ومن خلال الدراسات التي أُجريت على التلوث عامة، وتلوث الهواء خاصة خلال أكثر من خمسين عاماً، أستطيع أن أُقدم لكم ما أجمع عليه العلم حول هذه القضية:
أولاً: تلوث الهواء عامة ينعكس سلباً على صحة الإنسان وينتقل تأثيره عبر الأجيال المتلاحقة.
ثانياً: تلوث الهواء يعد من الأسباب الرئيسية للوفيات على المستوى الدولي.
ثالثاً: تلوث الهواء يخفض من عمر الإنسان.
رابعاً: تلوث الهواء يؤدي إلى الموت المبكر للملايين من البشر حول العالم.
خامساً: تلوث الهواء يسبب مشكلات وتعقيدات للمرأة الحامل، أثناء الحمل وبعد الحمل للطفل المولود حديثاً، كموت الجنين وهو في الرحم، أو الموت بعد الولادة مباشرة، أو الولادة المبكرة، أو انخفاض وزن الجنين، أو المعاناة من الأمراض والمعوقات الجسدية العضوية والنفسية العصبية.
سادساً: تلوث الهواء في تقديري «قنبلة دمار شامل للجسم البشري»، فهو يؤثر على الجسم برمته من الناحية العضوية، والنفسية، والعقلية الذهنية.
سابعاً: تلوث الهواء يسبب السرطان، إضافة إلى أمراض أخرى لم تعرف تقليدياً بأنها تصيب الإنسان بسبب التلوث، مثل البدانة والوزن المفرط، وداء السكري من النوع الثاني، وارتفاع ضغط الدم.
ثامناً: منظمة الصحة العالمية تصنف تلوث الهواء بأنه مادة تسبب السرطان للإنسان.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك