شهادتي بـ«الأونروا – وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» شهادة تقدير وتثمين لدورها رغم أنها شهادة مجروحة! ذلك أنني –بامتنان شديد– سبق أن استفدت من جانب «الغوث» وجانب «التشغيل» فيها. ففي السنوات العجاف (سنة نكبة 1948 وما تلاها) حظيت عائلتي الممتدة، كوننا من معشر اللاجئين، بـ«بطاقة التموين» (كرت المؤن) التي كانت تصرفها «الوكالة» في سياق «الغوث». ثم، ومع بلوغي عامي السادس عشر (1961) استفدت من «منحة التعليم» التي كانت تصرفها «الوكالة» للطلبة المتفوقين بين اللاجئين وهكذا التحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت التي كان من المستحيل أن يكون لي فيها نصيب لولا تلك «المنحة»، حيث الأوضاع المالية لوالدّي (رحمهما الله) لم تكن تؤهلني للدراسة في تلك الجامعة المتميزة والمكلفة أيضا.
ولأنها جامعة متميزة، فتح لي تخرجي منها، وعلى الفور، أبواباً عدة للعمل منذ (1965). ثم شاءت المقادير أن أتولى (1997) موقع المسؤول الأعلى عن اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي –وضمن مهمات متعددة– جعلني المسؤول الأول عن العلاقة مع (الأونروا) وبالذات مع كبار مسؤوليها وعلى رأسهم «المفوض العام» وذلك قبل استقالتي من موقعي ذاك في عام (2000). وهكذا، يتضح كم هي شهادتي مجروحة عند أي منعطف للحديث عن (الأونروا). هذا: أولاً.
وثانياً، وفي ظل العدوان الإسرائيلي الحالي على «قطاع غزة»، وكذلك ازدياد التفاعل والتضامن وحركة التأييد والدعم للقضية الفلسطينية، فإنه لا يمكن النظر إلى قرارات دول (غربية بقيادة الولايات المتحدة وأخرى تدور في فلكها) بتعليق تمويل (وكالة الأونروا) إلا بهدف سفح دمها وتضييق الخناق والحصار الشامل على «القطاع»، باعتبار (الأونروا) الشريان الوحيد الذي يغذي أوساطاً واسعة فيه، أي الدخول في سياق العدوان/ الحرب التي يتعرض لها مليونان وثلث المليون فلسطيني في ذلك الجزء الغالي من الوطن، لتصبح الدول التي أعلنت تعليق التمويل، شريكة بشكل مباشر في سفح دماء الأهل في «القطاع» من خلال حرب التدمير والتجويع والتطهير العرقي الإبادية المستمرة منذ أربعة أشهر.
هذه «الوكالة» الرائدة -كما هو معروف- هي منظمة حيوية. فهي تعمل على تقديم المساعدات الإنسانية، إضافة إلى التعليم والرعاية الصحية للفلسطينيين اللاجئين في الأراضي الفلسطينية والدول المجاورة، وتعتمد بشكل كبير على التمويل الدولي لتقديم خدماتها، وبالتالي فإن استهدافها يمثل عقابا جماعيا للقطاع الذي تصل نسبة اللاجئين فيه إلى 80%، وللاجئي «الدول المضيفة» المجاورة أيضاً. وعليه، فإن قرار ثمانية عشرة دولة بتعليق تمويلها (للأونروا) هو بمثابة الدخول في شراكة كاملة مع الدولة الصهيونية في قضية تجويع وتقتيل فلسطينيي «القطاع» الذي يعاني منذ (7) أكتوبر 2023 من نقص حاد في المواد الغذائية والمساعدات الطبية، ناهيك عن وقف العملية التعليمية!
إن أبرز سبب وراء هذا القرار السياسي (وليس المالي فحسب) هو التماهي الكامل مع الكيان الصهيوني، والتصديق الأوتوماتيكي المتسرع على اتهامات غير موثقة، دون مراعاة للوضع الإنساني الصعب الذي يمر به الفلسطينيون هناك.
وحقاً، لا يمكن تجاهل الآثار الكارثية لهذا القرار على حياة المدنيين والأطفال الفلسطينيين. وبوضوح ساطع، فإن وقف التمويل يهدف إلى ضرب عصب القضية الفلسطينية وعمودها الفقري، وهي قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة والتعويض، في سياق مساعي «التوطين» في الدول المضيفة للاجئين تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية.
المطلوب الآن صهيونيا هو شطب (الوكالة) وسجلاتها ووثائقها، علماً بأنها الشاهد التاريخي على قضية اللاجئين، مثلما هي الجهة الوحيدة التي تملك وثائق «حق العودة» من خلال البطاقات القديمة. ولطالما ردّد آباؤنا: «معنا الله ثم كرت المؤن»! وقد كان هذا الكرت هو البطاقة اليتيمة التي تثبت وجود إنسان فلسطيني في المخيمات.
وبشطب «الأونروا»، يتم إلغاء الجهة المرجعية الوحيدة التي لديها وثائق تثبت فلسطينية اللاجئين الفلسطينيين. وما كانت (الوكالة) لتصمد حتى الآن إلا لأنها تابعة للأمم المتحدة، وقطع التمويل عنها اليوم هو دعوة صريحة للدول العربية بتحمل تكاليفها فيما سيقتصر دور الدول الغربية على دعم الكيان الصهيوني، رغم أنها (وكالة) أنشئت بقرار دولي ولا مجال لتصفيتها إلا بقرار دولي مماثل، لكن أولاً بعد حل قضية اللاجئين الفلسطينيين حلا عادلا.
بل إن الأهمية التاريخية الحيوية للأونروا تزداد هذه الأيام (1) مع تفاقم أوضاع الفلسطينيين في «القطاع» و«الضفة» ومخيمات اللجوء كذلك، (2) ومع ازدياد قدسية «حق العودة» في أعين الكثيرين. والحال كذلك، ليس مستغرباً الجهد الصهيوني/الغربي المتصهين لسفح دمها عبر نزيف «تعليق التمويل» الجاري حالياً مترافقاً مع سفح دم الأهل في «القطاع» وفي الضفة الغربية أيضاً، هذا الدم الذي غسل وسيغسل أكثر من عار كبير لحق بعديد الدول العربية والإسلامية والغربية، بل بالنظام الدولي قانونيا وأخلاقيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك