بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، ربما كان المرء يتصور أن صناع السياسات الأمريكيين والمعلقين السياسيين الرئيسيين في البلاد قد تعلموا بعض الدروس المستفادة.
وبدلا من ذلك، يبدو أن مناقشاتهم حول الصراع تظل حبيسة في نفس الإطار المتعب، وفي بعض الأحيان الوهمي، الذي كان موجودا قبل بدء القتال الحالي.
ونتيجة لذلك، فإنهم يربطون أنفسهم بهذه التعقيدات ويكابدون من أجل شرح ما يحدث وما يجب القيام به في المستقبل، كما يرفض عدد منهم الخروج عن القيود التي تفرضها الحكمة التقليدية ولا يجرؤون على المغامرة بما يتجاوز الشروط المقبولة لما يُعرف بالخطاب السياسي الصحيح. في ظل هذه القيود، هناك أشياء يجب أن تقال ولن يقولوها.
على سبيل المثال، على الرغم من حكم محكمة العدل الدولية بأن ممارسات وسياسات إسرائيل تؤسس لقضية «معقولة» للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، فإن هذه الكلمة مفقودة من الخطاب.
عندما يُعرض عليهم أعداد القتلى، وأولئك الذين يواجهون المجاعة، والأدلة الواضحة والدامغة على الدمار الشامل للبنية التحتية في غزة، فإن العديد من صناع السياسات والمعلقين غالباً ما يحولون المناقشة إلى الجرائم المروعة التي ارتكبتها حماس في يوم 7 أكتوبر أو يلقون اللوم في مقتل المدنيين على استخدام حماس سلاح «الدروع البشرية».
كما أنهم يسعون إلى إعفاء الولايات المتحدة الأمريكية من أي مسؤولية عن الوفيات، ويصرون على أن الرئيس جو بايدن وأعضاء إدارته يواصلون حث إسرائيل على اتخاذ تدابير لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين.
ثم تراهم بعد ذلك يتجاهلون حقيقة أن إسرائيل لا تولي سوى القليل من الاهتمام «لحث» الولايات المتحدة بينما تستمر الأخيرة في إعادة تزويدها الذخائر الفتاكة وعرقلة الجهود الدولية لوقف إطلاق النار.
ومما يثير الإحباط بنفس القدر إصرار الولايات المتحدة على وقوفها وراء الجهود الرامية إلى توفير المساعدة الإنسانية للسكان الفلسطينيين اليائسين في غزة، بينما ترفض في الوقت نفسه تحميل إسرائيل المسؤولية عن حقيقة أن نظام التفتيش المرهق والقصف المستمر في جنوب غزة يعرقل عملية السلام ويحول دون إيصال الإمدادات إلى المحتاجين.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة مؤخراً بحجب الأموال عن الأونروا – الوكالة الوحيدة القادرة على تقديم المساعدات – يشكل استهزاءً بالتزام أمريكا بتقديم المساعدات الإنسانية. وبقدر ما قد تكون هذه الروابط واضحة، إلا أنه قد لا يتم ذكرها.
وفي الخطاب الأمريكي المقبول، نادراً ما يتم إلقاء اللوم على إسرائيل. ويكاد يكون هذا خطأ حماس في أغلب الأحيان، وأن الولايات المتحدة تبذل كل ما في وسعها لتخفيف المعاناة. أما بالنسبة إلى قرار قطع المساعدات عن الأونروا – وبالتالي معاقبة جميع السكان الفلسطينيين على الجرائم المزعومة التي ارتكبها نحو 12 من آلاف موظفي الوكالة –فلا يجوز الإشارة إلى ذلك على أنه يمثل عقابا جماعيا.
بعد تجاهل حقيقة أن الغارات الإسرائيلية على المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية أدت إلى مقتل مئات الفلسطينيين منذ هجمات 7 أكتوبر، وأن هجمات 500 مستوطن على الفلسطينيين في منازلهم أو سياراتهم أو حقولهم أدت إلى مقتل ثمانية وتدمير الآلاف من أشجار الزيتون، قررت الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات من خلال فرض عقوبات على أربعة مستوطنين.
وقد رحب بعض النقاد السياسيين المدافعين عن مثل القرارات واعتبروا أنها «غير مسبوقة» و«دراماتيكية»، على الرغم من أنه ليس أكثر من مجرد إجراء لا طائل من ورائه. ولكن هذا الكلام لا يمكن أن يقال.
ما لم تتم مناقشته هو المشاكل الجذرية مع الاحتلال الإسرائيلي (وهو مصطلح لم يسمح به الحزب الديمقراطي مطلقًا في برنامجه)، والمشروع الاستيطاني الآخذ في التوسع، والنظام الشبيه بالفصل العنصري الذي يخلق الإفلات من العقاب لكل من المستوطنين والجيش الإسرائيلي.
ومن المثير للانزعاج بنفس القدر المناقشات الدائرة حول «اليوم التالي» والتي تكتسب زخماً متزايداً مع مرور الأيام في وسائل الإعلام والدوائر السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الموضوع، على أقل تقدير، غير حساس. ما هو «اليوم التالي» بالنسبة لـ 2.2 مليون شخص في غزة؟ هل من المفترض أن ينسوا عشرات الآلاف الذين ماتوا، وتحولت منازلهم وأحياؤهم بأكملها إلى ركام وأنقاض؟
أين سيعيشون؟ وماذا عن الصدمة التي لحقت بمئات الآلاف من الأطفال الذين تعرضوا للتشويه الجسدي والنفسي بسبب هذه الحرب؟ وماذا عن عشرات الآلاف الذين قد يفقدون حياتهم في الأشهر المقبلة بسبب المرض أو الجوع؟
نادرًا ما تكون هذه الأسئلة جزءًا من الخطاب المقبول.
وفي حين أن واشنطن لم تقدم خطتها الخاصة بعد، فقد قدم المسؤولون تلميحات حول تفكيرهم في الخطب وفي المناقشات مع الصحفيين. وانطلاقا من هذه الخطب والنقاشات يمكن أن ندرك الخطوط العريضة للأفكار التي ترقى إلى «الكثير من اللغط حول لا شيء».
ويبدو أن حجر الزاوية في بناء «اليوم التالي» ليس أكثر من مجرد «طريق إلى دولة فلسطينية في نهاية المطاف» – وهو ما يذكرنا بالمناظرة الشهيرة بين الفيلسوفين اليونانيين القدامى هيراقليطس وبارمينيدس حول «نصف الطريق إلى نصف الطريق إلى نصف الطريق» الذي لا نهاية له. «الطريق إلى نصف الطريق» – أي إلى الهدف الذي لا يمكن الوصول إليه.
في هذا «المسار» الخيالي، يقع العبء على الفلسطينيين لإنشاء دولة ذات مصداقية، وقابلة للحياة، وديمقراطية، وفاعلة، ولن تشكل أي تهديد لإسرائيل. المشكلة، بطبيعة الحال، هي أن الفلسطينيين يجب أن يفعلوا ذلك بينما يستمر الاحتلال مع القليل من القيود في السيطرة على الأرض والموارد والحدود والاقتصاد.
وهذا لا يختلف عن الخطة التي اقترحها الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش في عام 2002. فالدرس الذي كان ينبغي لنا أن نتعلمه آنذاك، ولكنه لم يتعلم، هو أنه ما دام الفلسطينيون لا يتمتعون بالحرية في تنمية اقتصادهم وحماية أراضيهم وأنفسهم من استحواذ إسرائيل وقمعها، فإنه لا يمكن أن تنشأ مثل هذه الدولة ذات المصداقية. وهذا الاقتراح، إذا جاز لنا أن نطلق عليه ذلك، ليس أكثر من مجرد سراب سوقت له الولايات المتحدة لوضع العبء على الطرف الأضعف.
وعندما يتم توجيه اللوم إلى إسرائيل، فإنه يركز فقط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وشركائه المتطرفين، الذين يقول النقاد السياسيون إنهم العقبة الرئيسية أمام المضي قدما.
وهذا لا يحظى بالقبول لأن أي دراسة دقيقة للناخبين الإسرائيليين ووجهات نظرهم سيشير إلى أنه على الرغم من أن نتنياهو ورفاقه متطرفون، إلا أنه لا يوجد تحالف يمكن تصوره يمكن أن يحل محلهم ويكون على استعداد لإنهاء الاحتلال والانسحاب من الأراضي والمستوطنات، ومن ثم السماح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة.
وأظهر استطلاع للرأي إسرائيلي أجري مؤخرا أن غالبية الإسرائيليين سيرفضون إنشاء دولة فلسطينية حتى لو كان ذلك مصحوبا بضمانات أمنية.
وعندما يواجه النقاد حقيقة أن أي حكومة إسرائيلية مقبلة لن تكون راغبة أو خائفة من الانسحاب من الأراضي المحتلة بسبب رد الفعل الشعبي السلبي، فإن النقاد يصمتون بسبب قلقهم على الرأي العام الإسرائيلي.
وهذا هو السبب وراء التحيز العنصري الذي يتسبب في تبدد هذه الأوهام برمتها الخيال. أتحدث هنا عما أسميه التحيز العنصري لأنه في العقل الأمريكي، غالباً ما يتم وضع الرأي العام الإسرائيلي فوق رأي الفلسطينيين. لكن هذا بالطبع لا يمكن قوله.
وهكذا، يستمر الهجوم الإسرائيلي، كما يستمر النقاش السياسي الأمريكي المنفصل عن الواقع. ولن يحدث التغيير إلا إذا تمكن الأمريكيون من تحرير أنفسهم من أغلال الخطاب الذي قادهم إلى هذا الطريق المسدود.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك