لا تزال إسبانيا، في عصرنا هذا، تستخدم كلمة El Cid للدلالة على سيد القوم، وقد أخذت عن العربية حين أطلقها مسلمو الأندلس للإشادة ببطلهم الملحمي، وهي كلمة في زعمي أجمل من كل مرادفاتها في لغات الدنيا، بما تحمله من موروث النبل والشهامة والفروسية.
«سيدنا» الذي أحب أن أحدثكم عن مشواره هو معالي الأخ رشيد المعراج، الذي يتقاعد هذه الأيام من مهامه في مصرف البحرين المركزي، بعد ما يناهز العقدين من الزمان في قيادة هذه المؤسسة.
ومن يعرف رشيد المعراج في البحرين يعلم شغفه برياضة المشي، ومن يعرف الرجل مهنيًّا داخل وخارج البحرين يعلم أن هذا الرجل المَشَّاء الصبور يمارس المشي على طريقة «المارثون».
لقد شهد العالم في فترة ولاية رشيد المعراج الممتدة أعتى عواصفه المالية، إلا أن ريادة رشيد المعراج «للمركزي» ظلت تتجدد المرة تلو الأخرى، وكأنه خُلق ليكون محافظاً.
الحقيقة التي لا مراء فيها أن «السيد» أذهل مرؤوسيه ومراقبيه وزملائه برباطة جأشه في مواجهة الصعاب، ليس فقط مجنباً السوق المالية أسوأ ما في الأزمات التي صادفتها من تبعات، لكن وباقتناصه أيضا – وبنجاح لافت – في كل مرة ما طرحته هذه الأزمات من فرص، ليضمن للبحرين استدامة مالية ورقابية جعلتها واحة وارفة للمستثمرين فيها.
لقد أدخل رشيد المعراج على خلفية هذه الأزمات، وبالاستقلال عنها أحيانا، أكثر الإصلاحات جرأة وحداثة، وأعلاها سقفاً، وبوتيرة أعْيَت بنوك الساحة في البحرين عن مجاراتها، ولكن دون ضوضاء أو إزعاج للراحة العامة، مستعيناً في إنفاذها بحكمته العملية وبمرونة التطبيق، ولكن دون المساومة في أي وقت عن تحقيق رؤيته أو التنازل عن معايير الجودة والتميز التي اختطها للسوق المصرفية في مملكة البحرين.
إن الملفات التي فتحها رشيد المعراج قبل تقاعده كثيرة، وحتى اللحظة الأخيرة، وفريقه المميز في «المركزي» مجتهدٌ وراءه في استكمال تنفيذها دون هوادة. يبقى أن رشيد المعراج كان يسابق الزمن لإقفال ملفين اثنين ربما كانا الأقرب إلى قلبه لاتصال كليهما بالأجيال القادمة، والذي كان الإعداد لهما هاجسه الأعظم.
الملف الأول هو محاولة إيجاده لبيت جديد يليق بالمتطلبات التدريبية لأجيال الغد من شباب المصرفيين في البحرين يكون قادرا على إعدادهم وتأهيلهم لوضعهم على عتبات المستقبل. فتهيئ له هذا الصرح الذي يقف اليوم بفخر وجسارة على أجمل ضفاف المرفأ المالي في البحرين ليكون المقر «الأيقوني» لمعهد البحرين للدراسات المصرفية والمالية، والذي أشرف رشيد المعراج شخصياً على إعادة توجيه دروسه لتتركز على أحدث التقنيات المصرفية المبتكرة، ساعياً إلى تكريس المعهد كمنارة متقدمة لاستيعاب وتوظيف الطاقات الإبداعية التي يبشر بها عصر الرقمنة المالية.
لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون الملف الثاني الذي شغّل سيد «المركزي» المخاطرة بالزّج بالبحرين في الأمواج العالية لهذا العالم الافتراضي الجديد، برقمنته وذكائه الاصطناعي، دون انتظارٍ لغيره ليفتح أمامه هذه المسالك الغامضة والدروب الوعرة، ليخرج هذا المحارب النبيل من تجاربه المثيرة وبمساعدة ثُلَّة ممن آمن برؤيته بباكُورَة مبادرات رقمية يقطف ثمارها اليوم شعب البحرين والمقيمون فيها، بما سيّرته لهم من صيرفة آمنة وسريعة وشمول مالي فعلي لا نظير له، فضلاً عن إرسائها «لقاعدة انطلاق» للأجيال الجديدة لتبني عليها من أجل مواكبة تطورات هذه الظاهرة التاريخية المتصاعدة والمُربكة للصناعة المالية التقليدية والتي تهدد كل من يتجاهلها أو لا يسَرع الخطى في محاولة الإحاطة بطاقاتها الإيجابية المتعددة ولكن أيضاً مخاطرها «بفجوة» قد يصعب بعد ذلك تدارك آثارها العميقة.
رشيد المعراج وصل أخيراً إلى خط النهاية من مسيرته المهنية، فجاء أولاً كما بدأ أولاً، ليترك لنا مؤسسة مرموقة هي بلا شك الأكثر سمعة في المنطقة، مرسخاً بذلك إرث أسلافه من رجال البحرين الأوفياء الذين أطلقوا قبل عقود سوقاً مالياً رائداً كان وسيبقى النافذة الأكثر إشعاعاً للبحرين على العالم.
بتألقه وبصمته الخاص، طَبَع رشيد المعراج كل مؤسسة مصرف البحرين المركزي بثقافته، فكل من يتعامل مع هذه المؤسسة العريقة يجد نفسه (على صرامة متطلباتها) يسبح في مياه آمنة لا تشبه إلا مياه الخليج الهادئة، والتي ما فتئت تُلهم رشيد المعراج كل صباح وهو يتأمل من شُرفات مكتبه في قلب المنامة حكمتها الخالدة بعين صائد اللؤلؤ الذي خَبِر أسرار وخبايا مهنة آبائه وأجداده. لا شك أن هذه المقاربة الصارمة في تَفحُّص المشهد من كل جوانبه هي وليدة حس بالمسؤولية يحدد عليه ماذا يفعل وكيف يفعله.
إن العقد الفريد الذي انتظم لهذا الصائد النبيل عبر ملحمته في «المركزي» من جوائز محلية وإقليمية ودولية تكشف بلا جدال عن رصيد الاحترام والتقدير الذي يحمله المصرفيون جميعاً لتجربة هذا «السيد» الذي شرَّفَ الوظيفة العامة بتفانيه الفذ في خدمتها مفضلاً إياها، مع قدرته على الانتقال إلى حياة أهدأ وربما مجزية أكثر في القطاع المصرفي الخاص. لقد أضفى كل ذلك على كل من وضعه القدر أمام رشيد المعراج وجاهةً وهيبةً وأدباً وتواضعاً، هي كلها خُلاصة أفضل ما في جيله من معاني العفة والنزاهة والإخلاص.
إن رشيد المعراج، وبالرغم من وطنيته الشديدة، يصعب حصره في بلده، فمهاراته العالية وخبراته المتراكمة واطلاعه الواسع وعلاقاته الممتدة أهْلته لدورٍ مباشر في المساعدة بصياغة رؤية مصرفية خليجية وعربية استشرافية ربما استحقت منا وقفة أخرى قد يأتي أوانها فيما بعد.
هذه الكلمة في حق هذا «السيد» آثرنا أن تكون منشورة ليس فقط لأن رشيد المعراج يستحقها منا، وإنما (وكما أراد هو دائماً) لتكون أيضا مساهمة في الاحتفاء بالمبادئ التي أخلص لها رشيد المعراج طوال مسيرته، والتي نأمل أن يساعد استذكارها على إنارة الطريق لمن أراد اللحاق بركبنا من الأجيال المصرفية الصاعدة.
شكراً معالي المحافظ.. شكراً أيها «السيد».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك