كان توقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 بمثابة إعلان تخلي الولايات المتحدة عن موقعها في منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي كانت يوماً ما تمثل واحداً من أهم محاور الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق. أما حين حاولت المملكة العربية السعودية أن تحذر من تبعات تلك الخطوة الخطيرة على الأمن والسلام في المنطقة، فإن حليفها الأمريكي لم ينظر إلى تلك التحذيرات بطريقة جادة.
كان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد عزم بعدما سحب قواته من العراق على التوصل إلى تسوية مع إيران، تكسبها مقومات الدولة التي يمكن الثقة بها في عملية تحديث النظام السياسي في منطقة غير مستقرة. ذلك ما بدا على السطح، أما في العمق فقد كان المخطط الأمريكي يهدف إلى تسليم المنطقة برمّتها إلى الجماعات الدينية المتشددة التي هي بطريقة أو بأخرى تنتمي إلى ما صار يُسمى في ما بعد بمحور المقاومة الإسلامية الذي تقوده إيران.
لم يكن «الإسلام السياسي» مرفوضاً من العقل السياسي الأمريكي ما بقي في حدود الجغرافيا المرسومة له. فهو اختراع صُمم من أجل القضاء على الأنظمة الوطنية وإنهاء مفهوم السيادة في الدول التي فتحت الفوضى فيها الدروب على متاهة لا متناهية. حين سلمت الولايات المتحدة العراق طوعاً إلى إيران كانت قد راهنت على أن نظام الملالي الحاكم في طهران سيسمح لها بالإبقاء على عدد من قواعدها على الأراضي العراقية، وهو ما نص عليه الاتفاق الاستراتيجي الذي وقعته عام 2008 مع الحكومة العراقية التي كان نوري المالكي المعروف بصلته القوية بإيران يتزعمها. ما حدث في ما بعد هو العكس تماما.
لم يكن الحرص الأمريكي على توقيع الاتفاق النووي مع إيران محاولة لحفظ الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط، بل كان إشارة خضراء لإيران للاستمرار في مشروعها التوسعي رداً على النكسة التي أصيبت بها «جماعة الإخوان المسلمين» في مصر بعد سنة من حكمها. التقى الرهان على «الإخوان» بالتسليم بـ«حق» إيران في أن تُعيد شكل النظام السياسي في المنطقة بحسب أهوائها العقائدية، وهو ما تجسد واقعياً في الفوضى المدمرة التي شهدتها سوريا. هناك حيث ضاقت الأرض بالمجموعات المسلحة التي كان جزء منها تابعاً لإيران («حزب الله» والمليشيات العراقية والأفغانية).
كانت هناك في سوريا صورة مثالية لمستقبل المنطقة مثلما رآه العقل السياسي الأمريكي في عهد أوباما، الرئيس الذي اعتقد أن التخلي عن الشرق الأوسط هو أفضل الحلول لمحو عار الاحتلال الأمريكي للعراق. سيكون صادماً لو قلت إن أوباما انطلق من رؤية ساذجة، رغم أن رئيس الدولة العظمى في العالم يملك جيشاً من المستشارين والخبراء. ربما يكون الخطأ جزءاً من الفكرة وليس ملحقاً بها، وهو ما تحقق في الرد الأمريكي الضعيف على القصف الذي أدى إلى مقتل ثلاثة وإصابة أكثر من أربعين جندياً أمريكياً في قاعدة عسكرية تقع على الحدود الأردنية – السورية. يفكر الرئيس جو بايدن بأسلوب للعلاج لا يخرج عن الطريقة التي كان يفكر فيها أوباما.
لا تزال إيران تحتل جزءاً مهماً من العقل السياسي الأمريكي تقديراً لمهارتها في سد الفراغ السياسي الذي صنعته الولايات المتحدة بنفسها.
أليس من الغباء السياسي ألا تتوقع الولايات المتحدة نشوب صدام بينها وبين إيران؟ النظام السياسي في إيران قائم على أساس عقيدة الحرب الدائمة التي هي تجسيد لمبدأ «تصدير الثورة» الذي وضعه الخميني هدفاً لانتصاره. لذلك من الصعب تخيل قوة كبرى مثل الولايات المتحدة ترضى بالتخلي عن منطقة نفوذ استراتيجية مثل الشرق الأوسط بسبب رغبة رئيسها في الانتقال إلى الصين واليابان بعدما شعر بالاطمئنان إلى أن وجود قواته المحدود سيكون مصاناً في ظل الخدمات التي قدمها للطرف الذي سلمه مقاليد الأمور.
وإذا كان أوباما قد أخطأ في حساباته فإن بايدن لم يكن ذكياً ليقوم بتصحيح ذلك الخطأ. لقد وضعت الولايات المتحدة قواتها تحت مطرقة المليشيات التي سبق لها أن غضت الطرف عن انتشارها وتنامي قوتها. لا لشيء إلا لأنها اعتقدت أن إيران ستبادلها الخدمات مثلما فعلت سنة 2003 حين غزت القوات الأمريكية العراق. ذلك لم يحدث لأنه يقع خارج المنطق الذي يحكم العقل السياسي الإيراني. لقد اعتادت إيران أن تأخذ ولا تعطي. أما حين تشعر بأن ما تأخذه هو أقل مما تحتاجه ولا يكفي لتلبية طموحاتها في الهيمنة والتوسع، فإنها تلجأ إلى أتباعها لإلحاق الضرر بالآخرين من أجل أن تذكرهم بضرورة أن يزيدوا في عطائهم. وهو ما لم يكن غائباً عن العقل السياسي الأمريكي الذي خص إيران بمنطقة لينة، حين أرخى لها الحبل الذي شده في مواجهة دول هي أقل خطرا منها. لم تدخل إيران إلى المزاد الفلسطيني من خلال حرب غزة إلا لأنها ترغب في زيادة أرباحها، فهي لا تريد أن تخرج من هذه الحرب من غير أرباح. فرغم أن هناك معطيات واقعية تشير إلى ارتباط حركة «حماس» بعلاقات تعاون مع إيران، وهو ما أكدته الحركة نفسها من خلال زيارات رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية لطهران ولم تنفه إيران رغم أنها أكدت أن «حماس» لم تستشرها في هجوم السابع من (أكتوبر)، رغم ذلك فإن الولايات المتحدة لم تشر بأصابع الاتهام إلى إيران. الأدهى من ذلك أن هناك أصواتاً تنادي بالتفاوض مع إيران من أجل تهدئة «الوحوش» التي أطلقتها في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وليس بالضرورة أن يتم ذلك التفاوض ليكون واقعاً، لكن الإشارة إليه ولو نظرياً هي اعتراف بمكانة إيران في المنطقة. وهو اعتراف سيؤسس لقاعدة جديدة تتمكن من خلالها إيران من تكريس هيمنتها في المنطقة. ذلك التحول سيسمح للولايات المتحدة بتقديم هبات جديدة إلى إيران ستكون أفضل من تلك الهبات التي قدمها باراك أوباما بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك