خلال مشاركته في حوار المنامة الأمني التاسع عشر 2023 قال رئيس اللجنة العسكرية في حلف شمال الأطلسي «الناتو»: «إن اهتمام دول العالم بتوظيف التكنولوجيا في المجالات العسكرية لا يعني إغفال أهمية العنصر البشري والجغرافيا والحروب التقليدية» كلمات مختصرة ولكنها ذات دلالات عميقة من مسؤول رفيع المستوى في منظمة دفاعية، فمع أهمية تأثير التطور التكنولوجي المذهل على مجالات الحياة كافة ومن بينها المجال العسكري حيث غيرت التكنولوجيا وعلى نحو جذري طبيعة الصراعات وكذلك نوعية الأسلحة المستخدمة فيها فإن ذلك ربما أعطى الدول انطباعاً خاطئاً بأن مصادر القوة قد انحسرت في التكنولوجيا وإغفال ثلاثية القوة التي أشار إليها مسؤول الحلف وهي البشر والجغرافيا ونمط الحروب التقليدية والتي جسدتها حروب المدن في عدة صراعات وهي القضية التي ستكون محل اهتمام العديد من مخططي الأمن القومي لعقود قادمة.
وبداية إذا كنا نتحدث عن حروب المستقبل فإن مرتكزها الأساسي يتمثل في ثورة الذكاء الاصطناعي وهو الموضوع الذي استحوذ على جل اهتمام القمة العالمية للحكومات التي استضافتها دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الفترة من 12-14 فبراير 2024 والأرقام تتحدث عن نفسها لتعكس مدى اهتمام دول العالم بتلك التقنيات إذ إنه وفقاً للتقارير من المتوقع أن يتضاعف سوق الذكاء الاصطناعي في العالم حوالي عشرين مرة خلال العقد الحالي ليصل إلى ما يقارب 1,85 تريليون دولار أمريكي في عام 2030، مقابل 95 مليار دولار بنهاية عام 2021، وإذا كان ذلك قد بات أحد أهم مظاهر القوة في العالم بل مجالاً لتنافس الدول فقد وجد سبيله نحو التطبيق في المجال العسكري وبقوة على نحو استهدف المنشآت الحيوية للدول ومن ذلك الاعتداء على منشآت النفط في المملكة العربية السعودية عام 2019 وكذلك المنشآت الحيوية في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2021 وهما حادثتان قرعتا أجراس الإنذار حول طبيعة حروب المستقبل، فضلاً عن إطالة أمد الصراعات ومن ذلك الحرب في أوكرانيا والصراع في السودان حيث كان لتوظيف الطائرات من دون طيار «الدرونز» تأثير في أمد تلك الصراعات، بل تكمن الخطورة في حروب المستقبل في التأثيرات بالغة التدمير لتلك التكنولوجيا في ظل التوصل إلى منظومة واحدة للوحدة الرقمية والتي يمكن بموجبها للآليات البرية والبحرية والجوية تنفيذ مهامها بشكل جماعي من خلال مركز تحكم واحد، وتتعاظم المخاطر في ظل كون أن الذكاء الاصطناعي سوف يفوق الذكاء البشري وخارج نطاق تحكمه بما يعنيه ذلك من حقيقة مؤكدة مفادها أن التكنولوجيا التي كان يفترض أن تعزز من أمن الدول باتت أكبر مهدد لذلك الأمن وخاصة في ظل صعوبة إثبات وإسناد جرائم الذكاء الاصطناعي ومن ثم كيفية محاسبة مرتكبي تلك الجرائم مع دخول الجماعات دون الدول على خط التفاعل في الصراعات الإقليمية وتأجيجها على نحو غير مسبوق من خلال التوظيف السيء لتلك التكنولوجيا، التي أصبحت من مهددات الأمن والسلم الدوليين وكان مثار اهتمام منظمة الأمم المتحدة ففي يوليو 2023 وللمرة الأولى خصص مجلس الأمن جلسة خاصة لمناقشة تأثير ثورة الذكاء الاصطناعي على الأمن والسلم الدوليين وكان لافتاً دعوة أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة دول العالم إلى بحث تأسيس كيان أممي لحوكمة الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن تحذيره من التفاعل بين أنظمة الذكاء الاصطناعي وأسلحة الدمار الشامل، وقد لا أبالغ القول إن عدداً قليلاً من الأفراد بإمكانهم شن هجوم شامل على منشآت دولة بأكملها في غضون دقائق معدودة.
وإذا كانت تلك الثورة التكنولوجية أمرا لا يمكن تجاهله فماذا عن الحروب التقليدية؟ بتحليل ما أشار إليه مسؤول الناتو كما سبقت الإشارة فإن عناصر الحروب التقليدية هي البشر والجغرافيا ونمط العمليات العسكرية التقليدية، فهل كان للتكنولوجيا تأثير في ذلك النوع من الحروب؟ فبداية للجغرافيا تأثير هائل وخاصة ضمن الحروب غير النظامية التي تكون في المدن تحديداً، وكان ذلك واضحاً في المدن العراقية خلال المواجهات مع القوات الأمريكية في الفلوجة والموصل2004 حيث تم استخدام العبوات البدائية لمواجهة القوات الأمريكية ولم يكن أمراً سهلاً السيطرة على هاتين المدينتين ليس بسبب عدم قدرة القوات الأمريكية آنذاك ولكن أنها لم تعتد على ذلك النمط من الحروب وربما كان ذلك دافعاً لصياغة حلف شمال الأطلسي «الناتو» استراتيجية للتعامل مع حروب المدن ورغم أن مضمونها قد يقتصر فقط على الدول الأعضاء ولكنها خطوة مهمة جديرة بالدراسة، من ناحية ثانية ربما أن أحد أسباب إطالة أمد الصراع في السودان هو توظيف المدن في ذلك الصراع من خلال تمركز قوات أحد الأطراف في بعض المدن مما يجعل اقتحامها أمرا باهظ التكلفة ومحفوفا بالمخاطر وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا وكذلك أحداث غزة ، في كتابه بعنوان «حرب المدن في القرن الحادي والعشرين» أشار أنتوني كينغ إلى ما ذكره بيتر منصور العقيد المتقاعد الذي قاد اللواء الأول للفرقة الأمريكية المدرعة الأولى في بغداد عام 2003 بالقول «يمكن أن يستهلك مبنى واحد كتيبة كاملة ما يصل إلى 1000 جندي في قتال ليوم واحد» ويعكس ذلك مدى المخاطر التي تتكبدها الجيوش النظامية خلال حروب المدن، من ناحية ثانية فإن العامل البشري يظل حاسماً في الحروب بما لديه من القدرة على المناورة والتصرف حال تغير مسار المعركة وما يطلق عليه أنه يكون «صاحب الأرض» ولديه دراية كاملة بمناطق المناورة والتأثير، وقد أجمعت العديد من الدراسات التي تناولت تلك القضية عبر عصور مختلفة أنه في مثل تلك الحروب تكون القوة متكافئة تقريباً لأن التكنولوجيا توازنها الأرض والبشر، وأخيراً فإن نمط الحروب التقليدية ذاتها سوف يظل أيضاً ذا تأثير، صحيح أن التطور التكنولوجي قد فرض على دول العالم كافة تغيير أنماط التسلح ولكن تظل الجغرافيا تلعب دوراً مهماً فالدول التي لديها تضاريس جغرافية تتضمن جبالاً تختلف جذرياً عن تلك التي توصف بأنها في حالة من «الانكشاف الاستراتيجي» بما يفرض عليها استحقاقات دفاعية مختلفة تماماً.
وفي تقديري أن هذين النمطين من الحروب مهمين للغاية لإثارة الجدل حول ثلاث قضايا الأولى: ضمن سعي الدول لإقامة المدن الذكية بما يتضمنه ذلك من سبل حمايتها من الهجمات الإلكترونية وغيرها فإنه لابد أن تكون مدناً آمنة في الوقت ذاته من خلال إمكانية إدارة الأزمات في تلك المدن خلال الصراعات، والثانية: أهمية أن ينعكس هذان النمطان من الحروب على مفاهيم الأمن القومي للدول، والثالثة: ما الدروس المستفادة من حروب المدن في مناطق مختلفة من العالم.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك