منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والحديث لا يتوقف عن المستقبل الفلسطيني بوجه عام، أو اليوم التالي للحرب التي تزداد شراسة يوما بعد آخر، وتطحن في طريقها حيوات وأحلام مشروعة لشعب يناضل منذ أكثر من مائة عام، من أجل نيل حريته، واستقلاله وإقامة دولته المستقلة، وفقا لقرارات الشرعية الدولية.
تبادلت الأطراف الدولية سواء الولايات المتحدة الأمريكية، أو الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، إضافة إلى قوى إقليمية عربية، وغيرها، هذا بخلاف إسرائيل الحديث عن اليوم التالي لحرب غزة، والسيناريوهات المحتملة لشكل المستقبل الفلسطيني.
طرحت العديد من وجهات النظر والرؤى المتعددة والمتناقضة منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن، منها تشكيل إدارة محلية لإدارة شؤون قطاع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية، وأخرى ذهبت إلى ضرورة إجراء تعديلات وإصلاحات على شكل السلطة الفلسطينية الحالي، «سلطة متجددة»، فيما ذهبت ثالثة إلى الخيار العربي بإدخال قوة عربية مشتركة تكون مسؤولة عن القطاع وإدارته وإعادة إعماره، ورابعة ذهبت إلى خيار تولي الأمم المتحدة المسؤولية.
لست بصدد مناقشة هذه الخيارات أو المفاضلة بينها، ولكن ما يجب الانتباه إليه هو غياب خيار الإجماع الفلسطيني، النابع من إرادة فلسطينية خالصة، ذلك الخيار الذي يستجيب إلى الطموحات الفلسطينية الحالمة بتحقيق الإنجاز الوطني في التحرر من قيود الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. وفي هذا السياق كان ومازال من المفروض التعامل بجدية مع الرؤية التي قدمها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، في مجلة «الفورين أفيرز»، وصحيفة الشرق الأوسط في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي، وهي مضمون ذات الرؤية التي سبق أن دعا لها على مدار السنوات العشر الماضية، بما في ذلك في الندوة التي عقدها في مدينة غزة بعد عدوان 2014.
من الواضح أن غياب الرؤية الفلسطينية يعود إلى الانقسام السياسي الفلسطيني، وهو الأمر الذي تعالجه رؤية فياض بصورة واقعية تمكن من الانضمام الفوري إلى حركتي «حماس» والجهاد الاسلامي لمنظمة التحرير من دون أي شروط من كلا الطرفين. فغياب وحدة مؤسسة صنع القرار السياسي أدى إلى إحداث تشوهات بنيوية ضربت عصب المؤسسات الفلسطينية الجامعة وخصوصاً منظمة التحرير الفلسطينية، والفشل الفلسطيني خلال ما يقارب العقدين من بناء تعددية حقيقة قادرة على عكس التمثيل الحقيقي لكل فئات المجتمع الفلسطيني، وقادرة على بناء برنامج وطني تحرري يستجيب للآمال والأحلام الفلسطينية.
يقف الإخفاق الفلسطيني في رسم مسار صحيح للتعددية السياسية في الحالة الفلسطينية، سبباً رئيسيا وراء غياب القدرة الفلسطينية على تبني خيار موحد لمرحلة ما بعد حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، ويضع الفلسطينيون في خانة المستجيبين أو المتلقين للخيارات المطروحة، من دون أن يكونوا مقررين أو مشاركين فاعلين فيها، ومطلوب منهم الاستجابة فقط.
يقول أرسطو «لن يكون الأقوى بالقوة الكافية لكي يكون السيد دائماً، إلا إذا حول القوة إلى حق، والطاعة إلى واجب»، هذه المقولة تلخص طبيعة العلاقة والأثر الذي تحاول إسرائيل فرضه من خلال استمرار حرب الإبادة في غزة، وهجمات المستوطنين، والاقتحامات اليومية لكافة مدن الضفة الغربية، وتقويض السلطة الفلسطينية، والتي تحاول إسرائيل جاهدة إفراغها من محتواها الحقيقي كنظام سياسي قادر على حمل تطلعات الشعب الفلسطيني نحو الخلاص الوطني والاستقلال الناجز.
يتطلب ذلك طرح ما هو المطلوب فلسطينياً لمواجهة حالة التفتيت والتيه التي تحاول إسرائيل فرضها على الشعب الفلسطيني، وضرورة الخروج من المأزق السياسي الداخلي، وبناء جبهة وطنية عريضة تعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الإطار الجبهوي الواسع لكافة ألوان الطيف الفلسطيني، وبناء برنامج وطني يستجيب للحقوق الفلسطينية المشروعة، وتبني أدوات وآليات فلسطينية بالتوافق على تشكيل حكومة وطنية قادرة على التصدي العاجل والفاعل لأولوية إعادة الإعمار وقطع الطريق على مخططات التهجير التي تعمل عليها حكومة الحرب الصهيونية ، كما تتطلب النهوض الشامل وتوفير مقومات الصمود الشعبي والسياسي لمواجهة حالة الاقتلاع والتفكيك التي تحاول إسرائيل رسمها وفرضها على الشعب الفلسطيني، وذلك لن يكون إلا من خلال احترام التعددية داخل الأطر القيادية الفلسطينية سواء كانت تعددية فكرية أو سياسية أو حزبية، تعددية قادرة على حماية المشروع الوطني من الانهيار والتبديد.
ربما هذا هو الوقت الحقيقي لجميع قيادات الأحزاب السياسية والحركة الوطنية الفلسطينية، لتجاوز حالة الخلافات الشخصية والرؤى الفردية ومحاولات فرض الرأي، والنهوض بالحالة الفلسطينية وقياداتها وفق استراتيجية وطنية تمكن المواطنين من القدرة على البقاء والصمود، والنهوض بكافة الطاقات الكامنة لدى الشعب الفلسطيني، وقيادة نضاله نحو إنهاء الاحتلال وممارسة حقه في تقرير المصير، فهذه الحرب فرصة لاستعادة النهوض الوطني من جديد، وفرصة لانبعاث وطني جديد، انبعاث يقوم على بناء وطني جامع لرؤية وأهداف واستراتيجيات موحدة، ويراعي في ذات الوقت الأليات والأدوات الممكنة للوصول إلى حلم الاستقلال الوطني الناجز، والخشية من أن عدم الاستثمار الوطني في هذه الحرب الشنعاء سيدفع الشعب الفلسطيني للتحول من حلم الدولة إلى دوامة مخيمات اللجوء.
{ أكاديمي فلسطيني
مختص في العلوم السياسية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك