فيما ترى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأطراف عربية وكثير غيرهم أن إقامة دولة فلسطينية هي ضمانة لأمن إسرائيل واستقرارها وإنهاء للصراع الطويل والمرير، إلا أن إسرائيل بمختلف تياراتها الآن ترى في هذه الدولة تهديدا خطيرا لأمنها ومستقبلها، فهذه الدولة – بحسب نتنياهو – على الأقل ستكون قاعدة للإرهاب ومصدرا لعدم الاستقرار .
هذا الفرق في الموقف بين إسرائيل والعالم كله تقريبا يعكس إلى حد كبير مدى التطرف في المجتمع الإسرائيلي وانفصاله عن الواقع واختياره أسوأ السيناريوهات، لأن عدم إقامة هذه الدولة سيؤدي إلى استمرار دائرة العنف وعدم الاستقرار، ويبدو أن إسرائيل الحالية تفضل ضم وتهويد الأرض على التسوية وتفضل الاحتلال على التطبيع، فإسرائيل تريد الآن تطبيعا مجانيا لا تدفع فيه أو تقدم من أجله أي شيء. ماذا يعني هذا الأمر؟!
يعني أن إسرائيل تعرف تماما ألا ضغوط حقيقية تمارس عليها من أجل تسوية مع الشعب الفلسطيني، فكل المواقف والآراء هي مجرد تمنيات أو نصائح أو رفع عتب أو مجرد إلهاء أو خداع أو ذر للرماد في العيون .
يعني إن إسرائيل تعرف أنها من القوة والتحكم والنفوذ بحيث تستطيع محاصرة أو مواجهة كل دولة أو هيئة دولية أو إقليمية بأدوات علنية وسرية لإسكاتها أو احتواء مواقفها .
ويعني أن إسرائيل تعرف أنها لا تتصرف وحدها، وأن الغرب الاستعماري كله يقف معها ولا يمكن لهذا الغرب أن يتركها أو يسلمها أو يخذلها .
ويعني أن إسرائيل تعرف حقا أن الشعب الفلسطيني يقف وحده إلى حد كبير، وأنه ليس هناك من مجال استراتيجي يتكئ عليه وليس هناك من جبهة قوية موحدة تسانده بالموقف والمال والقوة .
إن رفض إسرائيل إقامة دولة فلسطينية وقبول إسرائيل احتلالها لشعب فلسطيني يعد بالملايين وحرمانه من مستقبله وسيادته وكرامته، إنما تختار ضريبة ذلك بكل ما يحمل هذا الكلام من معنى، وهذا يعني ضمن أمور أخرى أن إسرائيل اختارت المواجهة الدائمة .
المشكلة في هذا المنطق أنه يغفل مفاجآت الزمن وتغيرات التاريخ، وأنه لا ينتبه إلى أن هناك دورات للقوة وموجات للنفوذ وانتقالات للأفكار والأشخاص والمراكز، فالعالم في حركة دائمة ودائبة، وأصدقاء اليوم هم أعداء غد، وأن ثروات اليوم ستجف وأن المدن المضاءة قد تتغير عليها الطرق والأموال وصنع القرار .
لا يمكن لإسرائيل أن تبقى كما هي اليوم، ولا يمكن لأصدقائها وحلفائها والمرتعبين منها أن يبقوا على حالهم أيضا، وكذلك الشعب الفلسطيني لن يبقى على حاله، كما أن الجمهور الإسرائيلي لن يبقى على حاله أيضا .
أقول ذلك لأصل إلى نتيجة هي أن العالم ليس غبيا ولا ساذجا عندما ينصح إسرائيل ويحاول عقلنتها وترشيدها بقبول إقامة دولة فلسطينية ربما تكون كفيلة لضمان الأمن والاستقرار والهدوء، لأن هذه الفكرة قد تتحول إذا تم رفضها دائما إلى مقترح مختلف تماما .
الدولة الفلسطينية المقترحة اليوم قد تكون ناقصة وهشة وفيها غموض هنا أو هناك، ولكنها تظل فكرة تلقى القبول أو التأييد باعتبارها التسوية الممكنة، رغم الاستيطان والرفض والإنكار لحقوق الشعب الفلسطيني، ولكن هذه الفكرة رغم كل ما يعتريها من نقص قد تكون هي أقصى ما يمكن للعالم أن يقدم في ظل هذه الظروف الحالية، وقد تكون غير ما يريده الشعب الفلسطيني بالتأكيد، ولكن ورغم كل هذا فإن الجمهور الإسرائيلي ونخبه وحكومته يرفضون حتى طرح الفكرة للنقاش، هذا يعني أن إسرائيل تريد كتابة تاريخ آخر للمنطقة وإذا لم يبادر أصدقاؤها وحلفاؤها ومن يعتقد أنها معجزة الله على أرضه إلى كبح جماحها، فإن هناك ما تجب الخشية منه .
وبغض النظر عن أن هناك من يقول إن التلويح بإقامة الدولة الفلسطينية هو لمجرد شراء الوقت وإدارة الصراع ليس إلا، إلا أن إسرائيل ترفض الكلام حتى في هذه الخدعة.. هذا يشير إلى عمق التحول الذي أصاب الرؤية والرأي الإسرائيلي في المزيد من العزلة والمزيد من العنف.
{ رئيس مركز القدس للدراسات
المستقبلية في جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك