يقول تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النحل / 125).
إذًا، فهذه الآية الجليلة تؤسس لمنهج عظيم في الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، ومن أعمدة هذه الدعوة وأسسها المكينة ثلاثة أسس، وهي: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وأول هذه الأسس: الحكمة فًي اختيار أساليب الدعوة الراشدة التي تختار من بين الأساليب أحكمها، وتضعها في المكان المناسب، والنسق الصحيح الذي يحقق للدعوة نجاحها، ويهيئ لها ما ترجوه من تحقق مرادها.
أما الأساس الثاني من أسس الدعوة إلى الله تعالى، فهي: الموعظة الحسنة، وذلك حتى تكون للدعوة إلى الله تعالى ثمارها اليانعة، وقطوفها الدانية، فإذا ما اشتد النزاع، وعلت الأصوات، وكادت الأيدي أن تتشابك، فنحن مأمورين بأن نتجادل لا بالحسن، وإنما بالتي هي أحسن، فتهدأ شدة الأصوات، وتنخفض نبراتها، وتهدأ النفوس وتكون مستعدة لتقبل الاستماع إلى الرأي المخالف، فإما قبوله أو رده، فذلك أمر آخر، وتكون المجادلة بالتي هي أحسن لا بالحسن –كما قلنا– هي السبيل إلى التعرف على حجج الآخر وأدلته في رفض الدعوة أو قبولها، ولقد أورد الحق سبحانه وتعالى نماذج من هذه المجادلات ينبغي على المسلم الداعية أن يختار أفضلها وأكثرها قدرة على الإقناع.. فقد جرى حوارٌ بين الله تعالى والملائكة حول خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض، وكان جدال الملائكة مع الله تعالى حول نشأة الإنسان (آدم عليه السلام) واختياره خليفة في الأرض إشارة واضحة الدلالة على جواز الجدال حتى مع الله تعالى، فما بالكم مع المخلوقات الأخرى والله تعالى، وإذا كان هذا جائزًا ولا حرج منه أو فيه، فمن باب أولى لا حرج في أن يكون هناك حوارٌ وجدالٌ بين المختلفين في النشأة والتكوين والغاية، يقول تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون) (البقرة / 30)، ولَم يمنع الحق سبحانه ملائكته من الحوار والجدال معه، وكان من الممكن أن يمنعهم من ذلك، لكنه سبحانه وتعالى لم يصادر حقهم في السؤال والاستفسار، وربما الجدال معه، لكنه جل جلاله بَيَّن لهم وبالدليل على أنه سبحانه يعلم ما لا يعلمون، قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32 )) البقرة.
ولم يستخدم الحق سبحانه وتعالى سلطاته العليا، فيمنع الملائكة عن أن يسألوا، ويشبعوا نهمهم إلى المعرفة، بل سمح لهم بالسؤال، ومعرفة الحكمة من وراء خلق الإنسان.
وها هو الحق سبحانه يجيز للمرأة أن ترفع شكايتها إليه جل جلاله حين طلقها زوجها طلاقًا بائنًا، وذلك حين قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي!: قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة / 1)، ولقد حكم الحق سبحانه لصالح المرأة ، قال سبحانه: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم (4 )) سورة المجادلة.
لقد أسس الحق سبحانه وتعالى بما جرى بينه سبحانه وبين ملائكته من حوار ومجادلة ركنًا شامخًا في استخدام لغة الحوار
بين المختلفين، ولهذا فحين يختار الإنسان المستبد من البشر لغة القوة والجبروت والاستعلاء، فيكمم الأفواه، بل ويقطع الألسنة فلا يسمع إلا صوته، ولا يعطي المظلوم الحرية في الدفاع عن نفسه، والإدلاء بحججه وبراهينه التي ربما أنقذته من القتل على أيدي الطغاة من البشر.
لقد ضمن الله تعالى للشيطان أن يدافع عن نفسه، وينقذها وها هو الشيطان يتمتع بكامل حريته التي لم يتمتع بها الإنسان، قال تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) إبراهيم / 22.
إذًا، فعلى الإنسان أن يتحمل ما كسبت يداه، واجترحته نفسه الأمَّارة بالسوء، ونفسه الفاجرة، ولَم يكن للشيطان في ذلك إلا أنه أشار من بعيد إلى المعصية، فانطلق في إثرها الإنسان ليشبع نهمه وشهوته إلى المعصية، والعصاة المسرفون على أنفسهم يقرأون اعترافات الشيطان في وحي يتلى إلى يوم القيامة: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (فصلت / 42) ثم لا يرعوي، ولا يرتدع ويؤجل التوبة حينًا بعد حين، فمتى ينوب، ومتى يؤوب؟!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك