في مكة المكرمة، وبعد وفاة السيدة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وبعد وفاة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي طالب، فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن الذي كان يأوي إليه في الأرض، فما كان منه صلى الله عليه وسلم في سبيل تثبيت الدعوة الإسلامية في الأرض إلا أن يذهب إلى الطائف من أجل دعوتهم للإسلام، ولكن تم صده.
عاد صلى الله عليه وسلم مرة أخرى إلى مكة المكرمة، ونحسب أنه كان يحمل في قلبه كثيرا من الألم والمعاناة من كل تلك الأمور التي مرت عليه خلال بضع السنوات القليلة الماضية، وفي الليل هجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه، وكان – كما جاء في الحديث النبوي الشريف الطويل – ما بين النوم واليقظة، إذ جاءه جبريل عليه السلام بالبراق، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصعد البراق، فركبا معًا، وانطلقا إلى بيت المقدس.
وهناك في بيت المقدس وعند المسجد الأقصى ربطا البراق، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد وإذ به يعج بجميع الأنبياء الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم والذي لم يذكروا، من لدن سيدنا آدم عليه السلام إلى سيدنا عيسى عليه السلام، ونحسب أنهم كانوا ينتظرون دخول النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم جبريل عليه السلام بإذن من الله سبحانه وتعالى نبينا محمد عليه السلام ليصلي بالأنبياء إمامًا، فصلى بهم جميعًا، وبعدما انتهى من الصلاة خرج مع جبريل عليه السلام لينطلقا إلى رحلة المعراج، وإلى السماوات العليا وإلى سدرة المنتهى.
إن حادثة الإسراء والمعراج تحمل في طياتها الكثير من المعاني والأفكار التي يجب أن يعاد النظر فيها، فهي ليست برحلة عادية، وإنما هو حدث كبير ربما لا يوازي الهجرة النبوية من حيث الأهمية، إلا أنها رحلة أيضًا مهمة ذات مدلولات عميقة نجد أنه من المهم أن نتدارسها اليوم بالتحديد وخاصة لما يتعرض له المسجد الأقصى من احتلال وظلم ومحاولة لطمس الهوية.
لماذا رحلة الإسراء والمعراج؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله مثل جميع البشر، يتألم ويعاني، وخلال تلك الفترة – كما أشرنا– تعرض للكثير من الصد والمعاناة والألم، من قومه في قريش وبعد عودة من الطائف، ووفاة السيدة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فهي كانت سكنه وهدوءه من جميع المعاناة التي يتعرض لها بصفة يومية، فهي آمنت به وأمِنت له الدار والسكن والحب وكل شيء، فكانت رضى الله عنها الظلال الوارفة التي يستظل بها عندما تشتد به الأزمات، ولكنها انتقلت إلى الرفيق الأعلى، وكذلك سنده وظهره عمه أبو طالب، فلم يبقى له أحد من الأرض، إلا بعض الصحابة رضوان الله عليهم والذين هم يحتاجون إلى من يسندهم، فكان هو سندهم.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى لحظة سكينة وهدوء، والارتقاء بنفسيته وإزالة معاناته، فمن يمكنه أن يفعل ذلك، فكانت هذه الرحلة.
ولقد أوقف الله سبحانه وتعالى نواميس الكون كلها من أجل هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه في رحلة سريعة يطوف بها الكرة الأرضية في ثوان، ويقدمه على الأنبياء ليصلي بهم إمامًا، ومن ثم ينتقل إلى لقاء الله سبحانه وتعالى عند سدرة المنتهى. هذه الرحلة كانت كفيلة أن تجدد طاقة الأمل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعيد توازنات نفسه وحياته، وتعلمه أنه إن كانت البشرية لم تقدرك فإن الله سبحانه وتعالى على عظمته وجبروته، وملائكته وجميع الأنبياء يقدرك ويحبك ويواسيك ويقدم لك يد العون في اللحظة التي – أنت يا محمد – تحتاجها.
وكأن الله سبحانه وتعالى يقول له لا تحزن يا محمد، فإن فقدت زوجتك ورفيقة دربك وعمك، فأنت هنا في السماوات مرحبا بك دائمًا أبدًا.
وجانب آخر،،
وفي هذه الأثناء كانت الكرة الأرضية والدعوة الإسلامية مقبلة – بعلم الله سبحانه وتعالى– على حدث عظيم وهو الهجرة النبوية إلى المدنية المنورة، وهذا يعني تكوين الدولة الإسلامية، وتكوين الدولة يحتاج إلى رجال ونساء أشداء وأقوياء في الجسم والروح، فكان لا بد من تصفية الكثير من الضعفاء ممن ادعى الإسلام، وهذا ما حدث.
فقد رأينا أنه في اليوم التالي وفي مكة المكرمة عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدث قريشا عن تلك الرحلة الخارقة لنواميس الكون لم تستوعبها عقولهم البسيطة، فبدأوا يسخرون من قوله، وحتى وجد عدد من المسلمين أن هذه الرحلة لا تتفق مع المنطق الرائج في ذلك الوقت، حتى جاء صديق الطفولة والعمر، رفيق الدرب وتوأم الروح والفكر، أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال تلك الجملة المشهورة التي رجت لها أرجاء مكة والكرة الأرضية: «إن كان قال ذلك فقد صدق». وكأن الصديق يقول (ليس مهمًا أنه قال)، ولكن المهم (من الذي قال)، فإن محمدًا لا يكذب، فكان الصديق رضي الله عنه في ذلك الموقف رجل بأمة كاملة، كلمات من ذهب سجلها التاريخ بحروف من نور، فأعاد إلى المسلمين وعيهم، وأخرس الكافرين وألجمهم.
لماذا بيت المقدس والمسجد الأقصى؟
ببساطة حتى يعطي الله سبحانه وتعالى القدسية المناسبة لهذه البقعة من الأرض في نفس كل مسلم على مر التاريخ، فقد كان بمقدور الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإسراء إلى أي بقعة من الأرض، ربما سيناء، أو أي مكان آخر، ولكنه سبحانه وتعالى اختار بيت المقدس، وجعلها أول قبلة يتجه إليها المسلم في الصلاة، إذ كان بمقدوره سبحانه وتعالى أن تكون مكة المكرمة هي القبلة الأولى والأخيرة، ولكنه جعل الصلوات تتجه نحو بيت المقدس في بادئ الأمر، كل هذا حتى تكون هذه الأرض المباركة جزءا أصيلا لهذه الأمة التي ستتولى قيادة العالم.
لذلك تعظم بالزيارة، وتقول الدراسات أن المراد بالبركة المذكورة في الآية الكريمة في قوله تعالى (الذي باركنا حوله) البركة الحسية والمعنوية؛ فأما الحسية فهي ما أنعم الله تعالى به على تلك البقاع من الثمار والزروع والأنهار، وأما المعنوية فهي ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية، حيث كانت مهبط الصالحين والأنبياء والمرسلين ومسرى خاتم النبيين، وقد دفن حول المسجد الأقصى كثير من الأنبياء والصالحين. ويجب ألا ننسى أن المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى».
وبناء على هذا المفهوم العميق فقد غادر الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدينة المنورة ولم يغادرها إلا لتسلم مفاتيح بيت المقدس، فكم مدن فتحت في عهده ولكنه لم يذهب لتسلم مفاتيح أي مدينة إلا بيت المقدس، لماذا؟ هذا من قداسة هذه البقعة من الأرض بالنسبة إلى المسلمين.
لماذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام إمامًا؟
نحسب أنه لم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وتقدم الصفوف، وإنما قدمه جبريل عليه السلام وبإذن من الله سبحانه وتعالى، فهنا وفي هذه البقعة من الأرض اجتمع صفوة الخلق، بمن فيهم سيدنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليه السلام، وهؤلاء كانوا أولي العزم من الرسل، بالإضافة إلى المئات من الأنبياء والرسل الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، أحياهم الله سبحانه وتعالى، فأوقف وأبطل نواميس الكون من أجل هذه اللحظة، فأتى الأنبياء من كل حدب وصوب، ووقفوا ينتظرون دخول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنهم يعرفون من القادم فقد أخبرهم الله سبحانه وتعالى بذلك، ونحسب أيضًا أنه عندما دخل المسجد ألقى التحية الإسلامية على الجميع، ومن الطبيعي أنهم يردوا التحية، فأمره جبريل عليه السلام أن يتقدم الصفوف ليصلي بالأنبياء إمامًا، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ركعتين، ثم غادر، فغادروا.
المهم في الموضوع إن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء يعني لنا بكل بساطة أنه صلى الله عليه وسلم هو إمام المرسلين والبشرية جمعاء، وأنه قد تسلم الراية الإسلامية وراية التوحيد من جميع الأنبياء منذ تلك اللحظة لقيادة العالم والبشرية إلى قيام الساعة.
ويجب الملاحظة أننا في هذا المقال لم نرد الدخول في الروايات المختلفة لحادثة الإسراء والمعراج، وبعض التفاصيل الأخرى، فلسنا من الذين يُنظرون للجدل وفتح المساحات للمناقشة الجدلية، سواء في ترتيب الأحداث أو في المشاهد التي شاهدها في تلك الليلة صلى الله عليه وسلم أو حتى في موضوع كيفية الصلاة التي أداها في المسجد الأقصى ووقتها وكل تلك الأمور الأخرى التي جرت في تلك الليلة، ولكننا في هذا المقال أخذنا بما هو الظاهر في الموضوع والروايات، بهدف أن نعمق فهمنا لبعض المدلولات من هذه الحادثة، وماذا يمكن أن تعني لنا، وكيف يمكن الاستفادة منها وأبعادها وما إلى ذلك، أما الأمور الأخرى فنتركها للأخوة المختصين.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك