لاقى قرار «محكمة العدل الدولية»، الأَولّي الذي أمرت فيه إسرائيل بالتصرف «وفقًا للقانون الدولي، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع أعمال الإبادة الجماعية ضد المدنيين الفلسطينيين المحاصرين داخل قطاع غزة»؛ «ترحيبًا دوليا كبيرا»، حيث يعد هذا القرار بمثابة «اعتراف مهم»، بارتكابها لأعمال الإبادة الجماعية.
وعُقِدَت جلسات القضية يومي 11و12 يناير2024، حيث اتهمت «جنوب إفريقيا»، إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة. وأوضحت «راشمين ساغو»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن الحكم الصادر في 26 يناير، يأمر إسرائيل بـ«التصرف وفقًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية»، و«اتخاذ جميع التدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية»، و«منع أي تصريحات أو تعليقات عامة تحرض على ارتكاب هذا الفعل»، و«اتخاذ جميع الإجراءات لضمان وصول المساعدات الإنسانية»، و«عدم التخلص من أي دليل يمكن أن يستخدم في القضية المرفوعة ضدها»، و«تقديم تقرير خلال شهر بمدى تطبيقها لهذه التدابير والأحكام».
وكرد فعل على هذا القرار، رحب المدافعون عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الدولية بالحكم. وقالت «أنييس كالامار»، من «منظمة العفو الدولية»، إنه «يبعث برسالة واضحة مفادها أن العالم لن يقف صامتًا، بينما تواصل إسرائيل حَملتها الوحشية للقضاء على سكان غزة»، ووصفته «بلقيس جراح»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، بأنه «تاريخي»، ينذر إسرائيل وحلفاءها بضرورة اتخاذ إجراءات فورية لمنع الإبادة الجماعية».
علاوة على ذلك، أشار المعلقون إلى أن حجم الدمار والمعاناة الإنسانية الموثقة داخل قطاع غزة، فرض على قضاة المحكمة النظر في الدعوى بجدية وإصدار حكمهم. وأوضح «أنتوني دوركين»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أنهم «وجدوا القضية مكتملة الأركان لبحثها، نظرًا إلى الخسائر الإنسانية المدمرة التي تسببت فيها قوات الاحتلال، والتصريحات التحريضية للمسؤولين الكبار الإسرائيليين بشأن الفلسطينيين ومستقبل غزة، مع اعتراف المحكمة نفسها بـ«خطورة الوضع الكارثي في القطاع»، وعدم وجود أي تدخل خارجي يعمل على منع تفاقم هذا الوضع».
وعلى الرغم من أن المحكمة لم تدع إسرائيل إلى وقف إطلاق النار – كما طالبت الدعوى التي تقدمت بها «جنوب إفريقيا» – فقد رأى «دومينيك واغورن»، من شبكة «سكاي نيوز»، أن «إسرائيل تفادت أصعب حكم يمكن أن تواجهه في الفترة الحالية». واعتبر «ديفيد كاي»، من جامعة «كاليفورنيا»، الحكم «إدانة واضحة» لسلوكها، و«حالة نادرة»، بسبب الحماية الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية والأوروبية لها، مضيفا أنه على الرغم من أن «المحكمة»، أظهرت في تقييمها ضبط النفس النسبي، والتزمت بالحياد في إرساء موقفها على قواعدها القانونية الخاصة، واستخدمت رئيستها «جوان دونوغو»، «لغة مخففة» في رأيها القانوني؛ فقد أعربت في النهاية عن «خطورة الوضع في قطاع غزة»، من خلال الاستشهاد بانتقادات مسؤولي الأمم المتحدة، ونقل التصريحات التي تدين المسؤولين الإسرائيليين، الذين أدلوا بتصريحات غير إنسانية تدينهم، وتكشف نواياهم السيئة تجاه مستقبل القطاع على المدى الطويل.
ووفقا للعديد من المراقبين الغربيين، فإن الاعتراف الدولي الكامل بجرائم الحرب الموثقة التي ترتكبها إسرائيل، سيسلك «مسارًا قانونيًا» طويلًا. وأضافت «ساغو»، أن المحكمة «ستستغرق سنوات للوصول إلى حكم»، وبالتالي، سيكون على الأرجح قد فات الأوان لإحداث تغيير ملموس بخصوص الحرب.
وعلى الرغم من أن الحكم لفت انتباه العالم إلى مسؤوليات إسرائيل بموجب القانون الدولي، واعترف بما أحدثته من جرائم حرب في غزة؛ فإنه لم يصل إلى حد مطالبتها بوقف إطلاق النار. ومع إشارة «دوركين»، إلى أن قضاة المحكمة «اقتنعوا بحجج إسرائيل بأن وقف إطلاق النار سيقوض قدرتها على الدفاع عن نفسها»؛ فقد أشار أيضا إلى «مدى تعقيد الأمور بسبب عدم اختصاص المحكمة قضائيًا بمحاسبة أي منظمة غير تابعة للدولة، ومن ثمّ، «لا يمكنها أن تأمر بوقف إطلاق النار من الجانبين».
وفي تقييمه لهذه المسألة، رأى «كاي»، أن القضاة اتخذوا «قرارا موضوعيا»، بعدم السعي إلى «ما لا تملك المحكمة فعليًا سلطة إنفاذه، دون دعم من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة»؛ لكنه أضاف أن جهودها للنأي بحكمها عن «أي تحيز سياسي أو الوقوع تحت أي تأثير»؛ يعطي أحكامها «أهمية أكبر»، ويحرم المنتقدين من فرصة تشويه سمعتها من خلال اتهامها بالتحيز لجانب أو آخر، مشيرا إلى أن المحكمة «لم تدخل في سجال مع إسرائيل»، عبر تأكيدها إلزام جميع أطراف النزاع بالقانون الدولي، فضلاً عن الدعوة إلى «الإفراج الفوري وغير المشروط» عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة منذ أكتوبر2023، مع الإشارة إلى أنها في الوقت نفسه، لم تطالب بإطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين دون محاكمة في السجون الإسرائيلية. ومع أن قرارها كان «أسوأ توقع دار في مخيلة» إسرائيل – كما أوضح «هنري لوفات» من جامعة «جلاسكو» – فإن شرط «تسهيل» تقديم المساعدات للمدنيين الفلسطينيين، مازال لا يرقى إلى مستوى الآلية الدولية التي أرادتها جنوب إفريقيا ومؤيدوها، لإيصال المساعدات الدولية إلى القطاع.
ومع أن «ساغو»، أوضحت أن التدابير المؤقتة التي جاءت في الحكم، «مُلزمة قانونًا لإسرائيل»، وأنه «لا يوجد حق في الاستئناف»، إلا أنها أكدت أن «محكمة العدل الدولية»، وحدها «لا يمكنها وضع حد لجرائم الحرب الإسرائيلية»، وأن هناك «ضرورة مُلحة» إلى ضغط قوي من المجتمع الدولي على قوات الاحتلال لوقف عدوانها ضد الفلسطينيين»، ومطالبتها بالوقف الفوري لإطلاق النار على أساس أنه «الشرط الأكثر فعالية لتنفيذ التدابير المؤقتة، وإنهاء معاناة المدنيين الفلسطينيين». وفي ضوء رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، دعوات المجتمع الدولي لإنهاء الحرب، وقرار محكمة العدل، ووصفه بالـ«الشائن»، وعدم اكتراث الحكومة الإسرائيلية بالمحكمة، أو الرأي الدولي بشأن حرب غزة، وتعليق «إيتمار بن غفير»، وزير الأمن القومي المتطرف، «بأن القرار معاد للسامية»؛ فمن المؤكد أن هناك «حاجة ملحة»، لمزيد من الضغط الدولي لإجبار إسرائيل على الامتثال للقانون الدولي.
وتزداد هذه الضرورة بسبب إشارة المعلقين الغربيين إلى احتمال صدور حكم نهائي من «محكمة العدل الدولية»، في هذه القضية بعد سنوات. ومع استمرار إسرائيل في الطعن على اختصاص المحكمة؛ أوضحت «ساغو»، أنه من المحتمل أن تكون هناك «مرحلة تمهيدية أخرى من الإجراءات»، يتم فيها تحديد مسألة اختصاص المحكمة، مشيرة إلى أنه «سيُطلب من الأطراف تقديم بيانات مكتوبة، تليها «جلسة استماع شفهية أخرى»، وبعدها ستصدر المحكمة أحكامهم النهائية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى وقت طويل.
ومع ذلك، تُعد المحاولات التي بذلتها المحكمة لتحديد جريمة الإبادة الجماعية؛ بمثابة تحذير من أنه لا يمكن السماح للأحداث الجارية بالاستمرار على ذات المنوال. وبالنظر إلى السوابق التاريخية، فقد قدمت «البوسنة والهرسك»، عام1993 دعوى لمحكمة العدل الدولية، ضد «يوغوسلافيا»، السابقة بتهمة الإبادة الجماعية ضد سكانها المسلمين؛ ولكن على الرغم من إصدار المحكمة أمرًا لها «باتخاذ جميع التدابير التي من شأنها منع ارتكاب هذه الجريمة؛ فإن هذا لم يساعد في حماية المدنيين الأبرياء، حيث وقع المزيد من الانتهاكات المروعة، والتي بلغت ذروتها في مذبحة «سربرنيتسا»، عام 1995.
علاوة على ذلك، ينبغي الإشارة إلى الكيفية التي أعرب بها بعض قضاة المحكمة عن معارضتهم لإعلان أن سلوك إسرائيل في قطاع غزة، يعتبر بمثابة إبادة جماعية. وعلى سبيل المثال، قال القاضي الألماني «جورج نولتي»، إنه: «من غير المنطقي التسليم بأن الهجوم الإسرائيلي على غزة كان «بنية الإبادة الجماعية»، فيما رفضت القاضية الأوغندية «جوليا سيبوتيندي»، إدانتها، مبررة ذلك بأن القضية الإسرائيلية الفلسطينية هي «مسألة سياسية وتاريخية بالأساس»، وبالتالي، لا يجب أن تقررها محكمة العدل الدولية.
ومع أن القضية قد تستغرق عدة سنوات حتى صدور الحكم النهائي؛ فقد تمت الإشارة إلى أن استجابة «الولايات المتحدة»، و«أوروبا»، حيال قراراتها الأولية أكثر أهمية من جدوى القرارات نفسها». وفي هذا الصدد، حث «كاي»، الدول الغربية على الاعتراف بهذه القرارات والتصرف وفقًا لها، ودعا «إدارة بايدن»، إلى «تبني أحكامها»، واستخدامها كوسيلة لفرض «خيارات دبلوماسية جديدة لإنهاء الحرب الإسرائيلية»، فيما دعا «دوركين»، الدول الأوروبية إلى «دعم الحكم بشكل كامل والمطالبة بتنفيذ التدابير التي فرضها»، لاسيما أن قبولها هو «أمر أساسي للحفاظ على سيادة القانون الدولي». وعند تقييمه للأحكام الأولية للمحكمة، أوضح أنها «تحتوي على رغبة طموحة» لتحدي جميع البلدان – خاصة الولايات المتحدة – «لأخذ القانون الدولي على محمل الجد في وقت يتسم بتزايد العنف والصراع وتناقص احترام سلطة القانون الدولي».
ومع ذلك، حذر كلا المحللين من تداعيات الفشل في القيام بذلك. وأشار «كاي»، إلى أنه إذا استمرت «واشنطن»، و«لندن»، و«بروكسل»، في دعم إسرائيل؛ فإنهم «يخاطرون بإلحاق المزيد من الضرر بالقانون الدولي، وبالقواعد التي يستند عليها النظام الدولي». واتفق معه «دوركين»، في أنه إذا رفضت الدول الأوروبية محاسبة إسرائيل، فإن هذا «سيؤدي إلى ترسيخ مفهوم المعايير المزدوجة»، التي تتصف به بالفعل الحكومات الغربية.
ومع ذلك، فإن ردود فعل الحكومات الغربية لا تشير إلى أن قرارات «المحكمة الدولية»، قد غيّرت وجهات نظرها. وبشكل أساسي، رفضت وزارتا الخارجية «البريطانية»، و«الأمريكية»، الحكم، وأكدتا دعمهما الكامل لإسرائيل. وأوضح «ستيف كروشو»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، أن «واشنطن»، و«لندن»، قد قررتا الاستمرار في تجاهل الحكم على الرغم من تداعياته الخطيرة على المدنيين الفلسطينيين».
على العموم، فإن تعنت الحكومات الغربية تجاه إلزام إسرائيل بتنفيذ قرارات «محكمة العدل الدولية»، ليس مفاجئا، في ضوء قيام هذه الدول في السابق بمنع عدة قرارات في مجلس الأمن من شأنها محاسبتها على عدوانها على قطاع غزة،. ووفقًا لـ«دوركين»، فإن القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا قد «اكتسبت مكانة وصدى قويين»؛ لأنها تمثل رؤية الجنوب العالمي الذي بات يهدف إلى «استعادة النظام الدولي الذي يقع تحت وطأة الهيمنة الغربية». وعلى الرغم من أن المادة «94»، من ميثاق الأمم المتحدة، تؤكد أن أحكام محكمة العدل الدولية مُلزمة لأطراف النزاع، وأنه إذا لم يتم تنفيذها يجب اللجوء إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ فإن الحماية المستمرة التي تتلقاها إسرائيل من الدول الغربية تعني أن التوقعات باتخاذ إجراءات دولية لمحاسبتها غير قابلة للتنفيذ.
بالإضافة إلى ذلك، رأت «ساغو»، أيضا أنه من الصعب إثبات تهمة الإبادة الجماعية في المحاكم الدولية بسبب شرط «ثبوت، أو استنتاج نية الإبادة الجماعية»، ضد الأشخاص الذين تعرضوا للهجوم. وعليه، فقد رأت أن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، واستهداف المدنيين، وإيقاع آلاف الضحايا، تسلط الضوء على الثغرات الكامنة في القانون الدولي، وأن جرائم إسرائيل في منأى عن المساءلة الدولية، لأنه خلافًا لاتفاقية الإبادة الجماعية، لا تتضمن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني أحكامًا تمنح المحكمة اختصاصا تلقائيا للحكم في أي جرائم أخرى قد تكون ارتكبت أثناء الحرب في غزة، إذ إن هذه الجرائم تخرج عن نطاق اختصاصها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك