يطيب للكثيرين اعتبار ما يجري حربا بين غزة وإسرائيل، ومن هذا التوصيف يتم اشتقاق الكثير من الأفكار حول نتائج الحرب ومصير غزة والمصير الجمعي للشعب الفلسطيني ارتباطا بذلك. ويطيب أيضا ضمن هذا النسق من التفكير تحجيم ما يجري في غزة بوصفه نتيجة مقررة سلفاً للصراع بين الفلسطينيين وفصائلهم في غزة والدولة التي تحتل أرضهم وتحاصرهم وتمنع عنهم حتى الهواء. وهذا تقييد أيضاً يهدف إلى بتر أطراف الصراع الدموي الذي تشنه الصهيونية وإسرائيل على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مائة سنة وكانت محصلته الأهم نكبة الشعب الفلسطيني وسرقة أرضه. والأمر بالطبع ليس كذلك.
المؤكد أن هناك تحولات أكبر من مجرد حرب تشنها إسرائيل كعادتها على قطاع غزة. الأمر بات ويتحول أكثر مع الوقت أكبر من غزة. ربما أن غزة هي مسرح الأحداث الكبرى فيه أو فيها تجرى كبرى مناوراته، لكن نتائجه لن تكون فقط «غزاوية» أو أن تأثيراتها لن تنحصر في بضع المئات من الكيلومترات على شريط فلسطين الساحلي الجنوبي. هناك تداعيات ونتائج أكبر باتت تتضح بشكل أكثر جلاء مع الوقت، ليس لأن الصراع والحرب لم يعودا مقصورين في غزة مع تسخين جبهات مختلفة ولكن لأن ما هو مطروح أبعد من مجرد غزة، وأن الحديث في النتائج لا يشمل فقط القطاع ومصير القطاع بعد انتهاء المعارك.
صحيح أن جوهر أي وقف لإطلاق النار لا بد أن يشمل تحديدا واضحا لمصير غزة وتحديدا ينطلق من أن غزة لن تكون مصدر تهديد لدولة الاحتلال بعد ذلك، وأن كل مصادر التهديد يجب أن تزول بالرضا أو بالإكراه، ويجب وضع ألف خط تحت «الرضا والإكراه» لأنه يعني أن طريقة تحقيق هذا التحييد ليست مهمة بقدر أهمية تحقيقه. والأمر كذلك فإن نتيجة الحرب الأولى يجب أن تكون إنهاء حالة غزة وهذا يعني ضمناً وصراحة وبالبلاغة وبقليل الكلام أن غزة تتوقف فترة طويلة من الزمن عن مقاومة الاحتلال وتدخل في حالة مسالمة كافية لأن يتغير فيها الزمن وعوامل التأثير المختلفة في السياسة الإقليمية والدولية.
وإخراج غزة من هذه الحالة يحتمل سيناريوهين: يتمثل الأول بإخراجها بشكل كامل من الحالة الوطنية ومن المسؤولية التضامنية الكلية فيما يحتمل الآخر أن يتم تشكيل الحالة الجمعية والمصير الجماعي بما يتوافق مع نتائج الحرب على غزة.
فيما يتعلق بالسيناريو الأول فإن ثمة تركيزا واضحا في الخطاب الخارجي تحديداً على «غزاوية» ما يجري رغم أن الاحتلال يواصل عدوانه بشكل مستمر وغير منقطع على كل مناطق الضفة الغربية بما في ذلك القدس، وربما أن حجم جرائمه والشهداء الذين ارتقوا في الضفة الغربية خلال الحرب على غزة غير مسبوق منذ الانتفاضة الثانية.
ومع ذلك فإن حجم ما تكبدته غزة من خسائر خلال الحرب الدائرة يفوق أي خسائر تكبدها الفلسطينيون من حيث تعداد الشهداء والجرحى وحتى كمية الدمار منذ النكبة. وهذا لا يتوقف عنده كثير إنه في المحصلة يعزز تطلعات البعض لتأكيد أن هذا الصراع غزاوي بامتياز وإذا كان الأمر كذلك فإن نتائجه يجب أن تكون «غزاوية»، وهنا تكمن الخطورة لأنها تعني صراحة إخراج غزة عن الحالة الوطنية والبحث عن مصير منفصل لها بعيداً عن المصير الجمعي للشعب الفلسطيني. وفي مثل هذا السيناريو فإن بقية مناطق الضفة الغربية متروكة لمصيرها وسيعود النقاش من الباب الخلفي عن حل الدويلات الفلسطينية أو «المدينة الدولة» أو روابط القرى.
ثمة أسماء كثيرة للشيطان ولا تقول كلها بالضرورة، إن موطنه جهنم، بل إن بعضها يجعل منه بطل «ميلتون» (كما في ملحمة جون ميلتون الشهيرة «الفردوس المفقود»).
فيما يشمل السيناريو الآخر استعادة ربط مصير غزة ضمن المصير الوطني العام بحيث يشمل أي حل النظرة الشاملة للمصير الوطني الفلسطيني. ومثل هذا التصور يجب أن يكون الغاية الكبرى للوطنية الفلسطينية لأنه يعني استعادة المصير الوطني المشترك، وفي هذا يجب ألا تطربنا بعض التصريحات الأوروبية حول الدولة الفلسطينية لأنها لن تعني بالضرورة الدولة التي نريد وقد تعني دولة غزة في المحصلة، وهذا موضوع آخر.
ما أقصده هنا أن إحدى نتائج الحرب على غزة قد تكون استعادة عافية المشروع السياسي الذي يعتبر غزة والضفة وحدة جغرافية واحدة. وربما من نتائج ما يجري هو إعادة الاعتبار من قبل المجتمع الدولي لفكرة المصير السياسي الفلسطيني ولفكرة تحرير الشعب الفلسطيني من نير الاحتلال لأن مثل هذا الواقع الذي تواصل فيه إسرائيل احتلالها للضفة الغربية وغزة بموافقة العالم واقع لا يمكن احتماله، وعلى الأقل لن يجلب الاستقرار في المنطقة.
وعليه فإن إعادة تكوين بعض الأفكار حول التدخل السياسي الخارجي في المنطقة الهادف لتعزيز قيام دولة فلسطينية على 20% من أرض الفلسطينيين باعتباره أقل ما يمكن أن يكون أساساً للنقاش سيكون أحد المساعي الحقيقية بعد انتهاء الحرب وربما يكون مدخلاً لإنهائها.
الأمر ليس بهذه السهولة في الاتجاهين ولكنه أيضاً سيكون صعباً علينا في الحالتين لأن ثمة مصيرا يتم رسمه وواقعا يتم تشكيله وأصعب ما فيه إن لم يكن لنا كفلسطينيين يد في تحديد معالمه. هذا ليس تشاؤماً لكنه تحذير من النتائج التي ليس من المؤكد نحن جزء من صناعة مدخلاتها رغم حجم التضحيات الكبيرة التي قدمها شعبنا ورغم الألم الكبير الذي تحملناه جميعاً سواء كنا داخل غزة أو خارجها.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك