عالم يتغير
فوزية رشيد
السعداوي: من وإلى العالم الآخر!
{ منذ اللقاء الأول به وكان ذلك في بداية الثمانينيات، بدا لي «عبدالله السعداوي» وكأنه من فضاء آخر! يمسك بين يديه طرفي الخيط ما بين الجنون والعقل، يستخرج منهما درر الحكمة! وسواء بكلامه وكان قارئًا فهمًا، حتى أنيّ في مرة كان يحاضر في ندوة له، أكثر من الاستشهاد بأسماء المؤلفين في الغرب وفي الشرق، قلت له: «هل من داع لكل هذه الأسماء؟! ألا تخشى من مغبة استعراضية؟!» ردّ وهو يضحك: (لو قلت فقط أفكاري كما هي فلا أحد سيعبأ بها! الناس هنا تهمهم الأسماء الأخرى!) ولكن مع الوقت شعرتُ أنه كان أكثر وثوقا بأفكاره الخاصة، منتشلاً نفسه من ضياعه فيها بعد سنوات من تجربته المسرحية الأولى في التأليف، والتي قام بإخراجها «جمال الصقر» وهي مسرحية (مؤلف ضاع في نفسه)!
{ توالت مشاركاته وتجاربه المسرحية ما بين قطر والشارقة والبحرين، ليدخل منطقة «التجريب المسرحي» من أوسع أبوابه أو يغدو مع الوقت، أحد أبرز مؤسسي «المسرح التجريبي» في البحرين والخليج، وكانت مشاركاته المسرحية في «مهرجان المسرح التجريبي» بالقاهرة، قفزة نوعية لتجاربه التي صقلها بحسه المرهف، وشغفه في البحث الوجودي، سواء بما ألفه أو أخرجه من أعمال له ولغيره ولمسرحيين عرب ومن العالم.
{ المسرح بالنسبة إلى السعداوي يشبه المعركة الدسمة التي يخرج من أوراها منتصرًا على نفسه!، ومؤرقًا باستيعاب الجمهور لما يريد إيصاله من تكثيف في الفكرة والصورة والخيال المسرحي، ولكأن هواجسه الملحّة تراوده بين عالمين: ما يراه من جنون في الواقع وما يراه من واقع في الجنون! ليكابد في دهشة العالمين أحلامًا تتراوح أيضًا بين الواقعي والانحياز للهموم الإنسانية، والفانتازي التي تلوّح له كسارية من عالم الفانتازيا والعبث!
وحين نال جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي عام 1994 عن مسرحيته «الكمامة»، كنت حينها مقيمة في القاهرة، وأتسابق مع الزمن والقاعات لحضور العروض المسرحية من مسرح إلى آخر!، وحضرت البروفة الأخيرة لإحدى مسرحياته، لا أذكر إن كانت «الكمامة» أو غيرها، وعايشت زمن القلق الذي كان يحاصره، وهو سعيد بمشاركتي واستطلاع رأيي فقلت له بعفوية: «لا تقلق! أنت إنسان جميل وحتمًا سيكون العمل جميلاً» وكان العرض في أحد أحياء القاهرة القديمة.
{ «عبد الله السعداوي»، الذي كنت أصطحب بعض أطفال العائلة لمسرحياته، وكانت ابنة أخي (فاطمة) شغوفة به وهي تكتشف معه عوالم المسرح والشغف في عمر الثلاث السنوات، ويدللها السعداوي بـ (فطومة) وهي تناديه (السداوي) من دون لفظ العين وكأن خيطًا خفيًا يربط بين طفولة روحه وطفولة العمر لدى فطومة! فترتفع ضحكاته وهو يداعبها كأصغر متفرج لاكتشافاته التجريبية! أيام لا تُنسى وصحبة مسرحية لا تغيب عن البال، كلما قفز «السعداوي» إلى الذاكرة بشخصه أو بكلامه أو رحلاته التجريبية! وربما لهذا جمع حوله الشباب الصغار من المسرحيين، ليشق معهم مسار أسئلته الوجودية وتوغله في التجريب، فكان بمثابة الأب الروحي لهم.
{ في قفزات الفكر المؤرق بالاكتشاف، ورغم تعقيدات التجريب، كان «السعداوي» قادرًا على أن يحتفظ ببساطة روحه في التعامل مع الآخرين، رغم أيضًا زخم الغموض الذي يلفّ أسئلته المدهشة في الحياة والموت! لكأنه هو بنفسه إحدى الشخوص المسرحية التي تطلّ بوجه ضاحك فيما الحزن والقلق يعتصر الأعماق! أو لكأنه من الشخصيات الروائية المرتحلة بين البعد المادي الواقعي، والبعد الآخر الميتافيزيقي الغيبي! عالم من هنا وعالم من هناك!، والتجريب في المسرح يختصر المسافة بين العالمين، فيربك المتلقي أو المشاهد بأرق في السؤال يكون مبهرًا بضوئه في لحظة، لينقلب إلى عتمة في لحظة أخرى! هل كان يختصر في تجريبه المسرحي كل عناصر المدارس الأخرى سواء الدرامية أو الميلودرامية، الكلاسيكية أو الحداثية؟! وفيما هو مبحر بسفينة الاكتشاف في العوالم الغامضة، لا ينسى أن يتكئ على عصاه برهة بحثًا عن كشف آخر! لتتوالى الأعمال التي أخرجها مرة بعد أخرى.
{ بتواضعه الجمّ، واتساع عينيه بنظرات مُلغزة، وشغفه بارتحالات الغموض في عالم أصابه ملل الانكشاف وسقوط الأقنعة! كان يبني بتؤدة تجاربه وتجريبه في المسرح والحياة! فيطلّ على عالم الأصدقاء ورفاق المسرح بومضاته المدهشة، حتى وهو يعلق على أمر ما! فيتضح حجم العمق الذي يقبع خلف بساطته! مثلما يتضح الحب الآسر للحياة التي يراها وكأنها مأسورة في أقفاص النسيان وهو يحاول فك رتاجها!
رحم الله «السعداوي» الشخصية المذهلة التي لا يمكن أن تُنسى، حتى لو لم يكن اللقاء به مستمرًا أو متواصلاً، ولكن تلك الومضات القليلة وإضاءاته الروحية والفكرية، التي يصادفها منه من عرفه، تكفي ليعرف أنه أمام شخصية مختلفة، وخاصة، ومغايرة، وضاربة في عمق الحياة واكتشافاتها وتجلياتها بهوس الأسئلة والتجريب! إنه «عبد الله السعداوي» وكفى! رحمه الله والعزاء لكل محبيه وأهله ولكل أهل الثقافة والفن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك