في الآونة الأخيرة، سلط المعلقون والمحللون الضوء على الكم الهائل من التناقضات التاريخية والمعايير المزدوجة والموثقة في السياسات الخارجية للدول الغربية، وأبرزها «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة» و«الاتحاد الأوروبي»؛ وذلك بالرغم من قدرتها للحفاظ على وضعها في طليعة الشؤون الجيوسياسية والاقتصادية والدفاعية العالمية. وعليه، أشار «جدعون راشمان»، في صحيفة «فايننشال تايمز»، إلى «تحول النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب إلى عالم «متعدد الأقطاب»، من المتوقع أن تلعب فيه بلدان أخرى دورا أكبر بكثير في الشؤون الدولية.
وعلى وجه الخصوص، فإن الدول الغربية التي ترفض العدوان على أوكرانيا، وتعلن أن احتلالها «كارثة يجرمها القانون الدولي»، وترى «فرض عقوبات قاسية»، على موسكو، ومناصرة الأوكرانيين؛ هي نفسها، التي تعايشت مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، دون أن تناصر قضيتهم، أو تفرض عقوبات على المحتل وهو يرتكب جرائم حرب متتالية، ويفرض عقابا جماعيا على شعب اعترفت له قرارات الشرعية الدولية بالحق في تقرير مصيره وفي دولته المستقلة.
وبعيدًا عن الدعوات الفاترة لإسرائيل بالالتزام بالقانون الدولي، وتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، فقد غابت المُساءلة بشكل كبير. وأدى الدعم الغربي القوي لدولة الاحتلال مُنذ فترة طويلة ورفض انتقادها من قبل الحكومات الغربية إلى منحها مطلق الحرية في قتل المدنيين الفلسطينيين دون مساءلة. ومع تصاعد العدوان على قطاع غزة استشهد أكثر من 28000 فلسطيني – أكثرهم من النساء والأطفال – وأصيب ما يقرب من 67 ألف شخص، وشرد 1.9 مليون آخرين، وتم تدمير ما يصل إلى 65% من كافة المباني، فيما تم تسوية أكثر من 47 ألف منزل بالأرض بالكامل.
ونتيجة لذلك، أوضح «ليام أوشي»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أن «الدعم غير المشروط»، الذي تقدمه «واشنطن»، و«لندن»، و«بروكسل»، لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، «لن يؤدي فقط إلى تقويض مصداقية تلك الدول كمؤيدة ومروجة للديمقراطية، وحقوق الإنسان، والقانون الدولي»؛ بل سيؤثر أيضًا على علاقاتها المستقبلية بجميع دول العالم، بما في ذلك شركائها الحاليين والمستقبليين.
ونظرًا إلى استمرار الدول الغربية في دعمها الكامل لإسرائيل؛ سياسيا، واقتصاديا، ودبلوماسيا، وعسكريا، في الوقت الذي تتهمها فيه «المنظمات الحقوقية العالمية»، و«جماعات حقوق الإنسان»، بإقامة نظام «فصل عنصري»، وتتهمها «محكمة العدل الدولية»، بالقيام بعمليات «إبادة جماعية»، و«جرائم حرب»، ضد المدنيين الفلسطينيين؛ فقد تطرق «أوشي»، إلى مدى ما يواجه الأمريكيون، والبريطانيون، والأوروبيون من «صعوبة في دعوتهم إلى احتياج أجزاء أخرى من العالم إلى التحول الديمقراطي، وتعزيز حقوق الإنسان، ودعم القانون الدولي».
وفي إدراك لأهمية هذه القضية، وقع أكثر من 800 مسؤول بارز من «الولايات المتحدة»، و«أوروبا»، على رسالة مفتوحة يوم 2/2/2024، تتضمن «انتقادات لاذعة» للسياسات الغربية تجاه الحرب المستمرة في قطاع غزة، والأراضي المحتلة، واتهموا حكوماتهم بالتواطؤ المباشر في «واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحالي»، من خلال السماح لإسرائيل بارتكاب «انتهاكات جسيمة للقانون الدولي»، و«جرائم الحرب»، و«التطهير العرقي»، و«الإبادة الجماعية».
وباعتباره الداعم الرئيسي لإسرائيل في حربها على الفلسطينيين؛ أوضح «إيان بريمر»، من «مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر»، كيف أصبح الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، «معزولا على الساحة العالمية»، وقارن وضعه بما كان عليه «الروس عقب شن حربهم على أوكرانيا لأول مرة»، مؤكدا أن «هذا الانفصال الصادم عن بقية العالم قد يتفاقم، مع احتمال حدوث مواجهة مسلحة مباشرة مع إيران»، وهو ما يتوقعه العديد من المراقبين الغربيين. وفي ضوء أن مخاطر تزايد الصراع في جميع أنحاء المنطقة، هي في الأساس نتيجة «للدعم غير المحدود»، الذي تقدمه «الولايات المتحدة»، لقوات الاحتلال؛ فقد أوضحت «إيما أشفورد»، من «مركز ستيمسون»، كيف ساهم ذلك في انتشار «موجة من الكراهية الإقليمية» لها في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ومع استمرار تعنت «واشنطن»، وداعمي إسرائيل الآخرين ضد الموقف العالمي المطالب بضرورة الوقف الفوري للحرب، وحماية المدنيين الفلسطينيين، وإنفاذ المساعدات الضرورية، وإيجاد حلول عادلة للصراع؛ فقد أشار «أوشي»، إلى الكيفية التي سيتفاقم بها الضرر الذي لحق بسمعة هذه الدول، بالتزامن مع ما لحق بالنظام الجيوسياسي العالمي من تغيرات، وبالإشارة إلى الاعتقاد الشائع بين المحللين بأن «القوة الجيوسياسية ستتحول بشكل جوهري نحو تلك البلدان التي لدى حكوماتها و/أو شعوبها وجهة نظر غير مواتية لإسرائيل»، أي تلك الموجودة في الجنوب العالمي، مثل «جنوب إفريقيا»، التي أوصلت إسرائيل إلى أعلى محكمة في العالم للرد على تهمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
ونظرًا لرغبة «الولايات المتحدة»، وحلفائها في تقريب العديد من دول الجنوب العالمي من كتلتهم السياسية والاقتصادية في ظل منافسة أكبر مع «الصين»، و«روسيا»؛ فقد أشار «أوشي»، إلى أن رفض «واشنطن»، و«لندن»، و«بروكسل»، انتقاد إسرائيل، سيؤدي إلى «تقويض مصالحها الوطنية»، عن طريق الإضرار «بالعلاقات التجارية الرئيسية»، وخاصة مع دول الشرق الأوسط، وآسيا، وإفريقيا، التي كانت من بين أشد المنتقدين لتصرفات إسرائيل.
وعلى الرغم من تأكيد «أوشي» أن منافسي الغرب العالميين بما في ذلك «بكين»، و«موسكو»، «يستخدمون بالفعل الدعم الغربي لإسرائيل؛ لتحدي السرد القائل بأن الدول الغربية تدعم حلاً عادلاً ومُنصفًا للصراع الحالي»؛ فقد رأى «إتش إيه هيلير»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، أنه من «التبسيط للغاية مجرد تأطير الانقسامات حول الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين»، باعتبارها «صدعًا بين الجنوب العالمي والشمال العالمي»، منوها إلى عدد الدول والمسؤولين داخل الاتحاد الأوروبي الذين رفضوا بشدة السياسة المؤيدة لإسرائيل، التي تنتهجها «أورسولا فون دير لاين»، رئيسة المفوضية الأوروبية، والذين دعموا صراحة الوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية.
علاوة على ذلك، تمت الإشارة إلى ما لحق من ضرر بسمعة الحكومات الغربية، جراء دعمها المعلن لإسرائيل؛ والمتمثل في احتمالية أن يؤدي ذلك إلى تقويض سلطتها محليًا. وبالإضافة إلى تنظيم العديد من المظاهرات الحاشدة التي اجتذبت مئات الآلاف من الأشخاص في جميع أنحاء أمريكا، وبريطانيا، وأوروبا؛ دعما للفلسطينيين، والمطالبة بوقف الحرب على غزة؛ تُظهر «استطلاعات الرأي»، انخفاض الدعم لإسرائيل في التاريخ الحديث بين شعوب أمريكا الشمالية، وبريطانيا، وأوروبا؛ بسبب «التحولات الديموغرافية والجيوسياسية».
وبشكل خاص، تضررت سمعة «إدارة بايدن»، بسبب فشلها في محاسبة إسرائيل، ومنع تصاعد الصراع في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وأظهرت «استطلاعات الرأي» بين الأمريكيين، وخاصة الشباب، تعاطفا متزايدا مع الفلسطينيين في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي عليهم. وبعد تزايد الدعم الغربي لقوات الاحتلال بعد 7 أكتوبر، أظهر استطلاع أجرته جامعة «كوينيبياك بولاية كونيتيكت»، أن أكثر من نصف الناخبين الأمريكيين (54%)، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين، وهي الأرقام التي تمثل «انعكاسًا حادًا» عن أرقام ما قبل الحرب، والتي كانت نسبتها 26%. ووفقًا لاستطلاعات مجلة «ذا إيكونوميست»، ومؤسسة «يوجوف» أواخر يناير 2024، «يعتقد ما يقرب من نصف الشباب الأمريكيين أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو ما يمثل 35% من جميع الأمريكيين الذين يعتقدون ذلك».
وفضلا عن ذلك، لاقت سياسة «بايدن»، في التعامل مع الحرب في غزة «رفضا شديدا من قبل الناخبين الأمريكيين. وأظهر استطلاع أجرته صحيفة «نيويورك تايمز»، في ديسمبر2023، أن نسبة الرفض بلغت 57%، وهو ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا. وبحسب «شبلي تلحمي»، من «جامعة ميريلاند»؛ فإن نتائج استطلاع القضايا الدولية الرئيسية الذي أجري في أعقاب اندلاع الحرب في غزة؛ وجدت أن عدد الشباب الديمقراطيين الذين يعتقدون أن «بايدن»، «مؤيد لإسرائيل»، تضاعف عما كان عليه قبل الحرب، وبالتالي يعارضون إعادة انتخابه في نوفمبر المقبل، وكان هذا «أعمق تحول في فترة قصيرة من الزمن» تم تسجيله بشأن هذه القضية.
وبشكل عام، بلغ مدى استنكار الأمريكيين لكيفية إساءة «بايدن»، لإدارة هذه الأزمة؛ تأكيدهم «أن الرئيس السابق «دونالد ترامب»، كان سيقوم بعمل أفضل في الاستجابة لهذا العدوان المستمر على الفلسطينيين». وعلى الرغم من أنه قام خلال فترة رئاسته بنقل السفارة الأمريكية من إسرائيل إلى القدس، وأغلق القنصلية الأمريكية أمام الفلسطينيين، وقدم خطة سلام في الشرق الأوسط مؤيدة بشدة لإسرائيل؛ إلا أن الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع ما زالوا يعتقدون أن «ترامب»، قادر على إدارة هذه الأزمة بشكل أفضل من بايدن بنسبة 46% إلى 38.%.
وعلى الرغم من أن «أوشي»، أكد أن السياسة الخارجية تجاه إسرائيل وفلسطين «من غير المرجح أن تكون قضية حاسمة لنتائج الانتخابات الغربية المستقبلية»، بما في ذلك الانتخابات العامة الأمريكية والبريطانية المقبلة؛ فقد ذكرت «لورين جامبينو»، في صحيفة «الجارديان»، أن «الشباب الأمريكيين»، كانوا في طليعة حركة التضامن العالمية مع «الفلسطينيين»، وأن «الأجيال المقبلة» في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بدأت «تدرك ضرورة تغيير شروط نقاش قضايا السياسة الخارجية في واشنطن»، موضحة كيف يمكن أن يرى المرشحون لتولي مناصب الرئاسة ورئاسة الوزراء، داخل الدول الغربية في السنوات المقبلة، «دعم إسرائيل، بمثابة سبب لخسارة التصويت لصالحهم».
ونتيجة لهذه الاتجاهات الدولية والمحلية، حث «أوشي»، الحكومات الغربية على إعادة تقييم دعمها المستمر للحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، وخلص إلى أنه يجب على صناع السياسات الدوليين «اعتماد منظور استراتيجي طويل الأجل»، للتأثيرات الضارة على السمعة الغربية الناجمة عن النهج الحالي، موضحا أنه إذا أرادت هذه الدول الاستمرار في «تشكيل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي المستقبلي، بما يتماشى مع أهدافها وقيمها المزعومة»، يتعين عليهم أن يحافظوا على هذه القيم باستمرار، مثلما يحدث عندما يتعلق الأمر بخصوم الغرب الرئيسيين، روسيا، أو الصين، أو إيران. ورأى «هيلير»، أن «النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة» يجب «إصلاحه»، بشكل متسق مع احترام القانون الدولي حتى يظل ذا ثقل، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلن يكون لدى البلدان غير الغربية أي التزامات ملزمة من جانبها لاحترام هذا القانون والانصياع إليه أيضًا.
على العموم، رأى «أوشي»، أنه «لا توجد طريقة أمام الغرب لتحسين صورة إسرائيل أمام العالم»، وأنه يجب على الدول الغربية تغيير سياساتها في الشرق الأوسط؛ نظرًا للتغيرات الجيوسياسية المحتملة في المنطقة، مع الإشارة إلى أنه بعد مرور ما يقرب من خمسة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة، لم تُحدث «إدارة بايدن»، أي تغيير في الموقف حتى مع تفاقم الأوضاع وتصاعد التوترات الإقليمية.
وفي الوقت الذي دعت فيه «آشفورد»، «واشنطن»، وحلفاءها إلى «بذل كل ما في وسعهم»، لدعم الحلول السلمية؛ فقد حذرت من الكيفية التي يبدو بها «البيت الأبيض»، بدلاً من ذلك «راغبا» بالتصعيد ضد «إيران»، بطرق تجعل من هذه الحرب إقليمية واسعة النطاق. ومما لا شك فيه، أنه إذا كانت هذه الدول تفضل توسيع نطاق العنف في المنطقة؛ بدلاً من تغيير دعمها لإسرائيل – حتى بعد اتهامها بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات للقانون الدولي؛ فإن هذا الأمر سوف يُحدث ضررا، ليس فقط على سمعتها الدولية ومصالحها الخاصة؛ ولكن أيضا ستكون له عواقب واضحة على الصعيدين الدولي والمحلي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك