أظهرت الأزمات الدولية الكبرى التي شهدها العالم مؤخرا، على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية والعدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وغير ذلك من القضايا الدولية الساخنة أن القوة الأوروبية التي كانت يوما من الأيام تحكم العالم وكانت تشكل عددا من الامبراطوريات أصبحت قوة في طريقها إلى الزوال والتراجع، فمنذ الحرب العالمية الثانية سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على القرار الأوروبي وعلى الاقتصاد الأوروبي وعلى القوة العسكرية الأوروبية حتى وصلت إلى تاريخ اليوم الذي لم يعد لأوروبا فيها صوت منفصل عن الصوت الأمريكي وما تقوله الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب والسلم وفي المال والاقتصاد.
فقد أظهرت مثلا الحرب على العراق وعلى أفغانستان في بداية الألفية الثالثة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية خارج القانون الدولي شبه منفردة باستثناء التبعية البريطانية أن الولايات المتحدة الأمريكية تلعب في الساحة الدولية وحدها ولا تعبأ مطلقا بمن تسميهم الحلفاء الأوروبيين، كما أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية والدعم غير المسبوق من الدول الغربية والناتو لأوكرانيا من أجل تدمير روسيا الاتحادية وتفتيت وحدتها السياسية والاجتماعية أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود وحدها تقريبا المعركة وتلزم جميع الدول الأوروبية تقريبا بما تراه مناسبا إلى درجة أن الرئيس الأوكراني فلاديمير زلينيسكي كلما رأي تخاذل من الدول الأوروبية أو بطأ في الدعم الأوروبي ركب الطائرة واتجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية طالبا الدعم المالي والعسكري ثم تصدر الإدارة الأمريكية توجيهاتها إلى الأوروبيين فيعودون إلى دعم أوكرانيا بما لديهم من أموال وسلاح وعتاد ولو على حساب شعوبهم التي تتظاهر في الشوارع رافضة هذا الدعم المطلق لأوكرانيا بلا حدود.
لا شك أن القارة الأوروبية بدولها المقتدرة وما تمتلكه من موارد بشرية وطبيعية وعلمية وبالرغم من تناقضاتها الداخلية فإنها قوة كبيرة بإمكانها أن تكون الأقوى في العالم لكنها اليوم تفتقر إلى الإرادة السياسية اللازمة لتكون ندا للولايات المتحدة الأمريكية ولتكون قادرة على التأثير في السياسة العالمية وعلى سبيل المثال فإن مصلحة أوروبا كمنظومة وكاتحاد اقتصادي وسياسي أن تكون قادرة على بناء خط مستقل حتى تستطيع أن تؤثر في العالم ومن مصلحتها أيضا أن تكون علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية متوازنة ولا تكون لصالح قوة على حساب قوة أخرى بل يفترض أن تعمل لحسابها ولحساب شعوبها التي تضج اليوم بالغضب ضد السياسات الأوروبية الانهزامية.
ومن الواضح اليوم أن القوى العالمية الصاعدة مثل المملكة العربية السعودية وتركيا وجنوب افريقيا وجمهورية الهند والبرازيل أصبحت تبحث لنفسها عن مكانة خاصة في العالم لتؤثر في مسيراته الاقتصادية والعسكرية والأمنية.
وفيما تتقدم روسيا الاتحادية والصين بشكل حثيث نحو الساحة العالمية ويزداد تأثيرها العسكري والسياسي، فإن القوى الأوروبية تبدو قابعة في الخلف تعيش تحت تأثير الولايات المتحدة الأمريكية ولم يبق لها سوى تأثير بسيط في إدارة الأزمات الدولية، وإن بلدا مثل فرنسا التي كانت قوة استعمارية امبراطورية كبرى يتم طردها بشكل ممنهج من وسط القارة الإفريقية، وينطبق هذا الكلام على سائل القوى الأوروبية الأخرى، كما نجح الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في شل القوى الأوروبية المستقلة ليتحول هذا الحلف إلى أداة عسكرية بيد الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد نهاية الحرب الباردة تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من إنشاء نظام دولي تقوده بشكل منفرد وفي هذا السياق وجدت الدول الأوروبية نفسها مجرد توابع لا إرادة لها ورأينا ذلك في جميع الصراعات التي شهدها العالم بل حتى في الأزمات المالية والاقتصادية في بداية الألفية الثالثة، وخاصة ان الأوروبيين دفعوا ثمنا باهظا نتيجة تبعيتهم للولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تبين خلال العقدين الماضيين على الأقل أن أوروبا التي في ذاكرتنا التاريخية قد انتهت عمليا، وهي في انتظار أن يظهر فيها أحد الزعماء البارزين الذي يسهم في إخراجها من حالة التبعية والضعف والاستفادة من مقدراتها الاقتصادية والبشرية لتكون قادرة على أن تؤثر في الساحة الدولية وان تخرج من تحت عباءة التأثير الأمريكي الذي جعلها على سبيل المثال تتوقف عن شراء النفط والغاز الروسيين بأسعار رخيصة تخدم اقتصادها وتشتري النفط والغاز الأمريكي بأكثر من أربعة أضعاف السعر الروسي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك