أبى هنري كيسنجر أن يرحل من دون أن يُخلّف وراءه مزيدًا من الضحايا، هذه المرة في فلسطين! وكيسنجر، الذي كان مستشارًا للأمن القومي ووزيرًا للخارجية في فترتي حكم نيكسون وفورد، مسؤول مسؤولية مباشرة عن جرائم بالجملة، بما فيها جرائم حرب. فهو مسؤول عن توسيع نطاق حرب فيتنام سرًا لتشمل كمبوديا عام 1969 التي قُصفت وقتها بأكثر من 540 ألف طن من القنابل التي قتلت أكثر من 300 ألف مدني وهجرت الملايين ودمرت أكثر من خُمس كمبوديا.
ووقتها قال كيسنجر عبارته الشهيرة، فعندما أعطى الأمر بإطلاق ذلك الدمار الشامل، قال لمرؤوسيه إن المطلوب تدمير شامل لكمبوديا بقصف «أي شيء يطير.. وأي شيء يتحرك».
وقد سمحت تبعات التدمير بوصول أكثر فصائل الخمير الحمر دموية إلى الحكم، فنفذوا مذابح جماعية قُتل فيها 2 مليون مدني آخر. والسيناتور برني ساندرز قال ذات مرة إن كيسنجر مسؤول عن «أسوأ حملة إبادة جماعية في تاريخ البشرية». ثم أعطى كيسنجر في عهد فورد الضوء الأخضر لسوهارتو، ديكتاتور إندونيسيا، بغزو تيمور الشرقية عام 1975، ولم ينصحه إلا بأن «ينجح» فيما سيفعل «بسرعة»! فكانت النتيجة مقتل 200 ألف مدني.
وكيسنجر مسؤول أيضًا عن قلب نظم حكم ديمقراطية. فهو كان وراء الإطاحة بحكومة الليندى في تشيلي. فبعد أن أنفقت المخابرات المركزية الملايين لخلق عدم استقرار لنظام الليندى، تمت الإطاحة به وقتله وتنصيب بينوشيه بدعم أمريكي كامل، فكان مسؤولًا عن أكثر من 40 ألف ضحية بين قتيل وسجين سياسي تعرضوا لتعذيب منظم. ثم فعل كيسنجر الشيء نفسه بدعم الانقلاب الدموي في الأرجنتين، والذي مارس الإخفاء القسري وقتل عشرات الآلاف من المعارضين.
وكان دوره محوريًا فيما عُرف بـ «عملية كوندور» بأمريكا اللاتينية، والتي تحالفت فيها نظم حكم يمينية، بدعم أمريكي، لاغتيال معارضيها وإخفائهم قسريًا.
أما العالم العربي فقد خطط كيسنجر منذ البداية «لعزل الفلسطينيين عن باقي العرب».
فقد كشفت الوثائق أنه رفض، بعد حرب 1967، أي «اتفاق سلام شامل بين العرب وإسرائيل» يتضمن الانسحاب من كل الأرض التي احتلتها إسرائيل في تلك الحرب، رغم التظاهر الدائم بأن ذلك كان الهدف النهائي. وأعلن وقتها ما يسمى «منهج الخطوة خطوة». وكان الهدف منه كما قال سرًا هو «كسر الجبهة العربية الموحدة»، بل «عزل الفلسطينيين عن باقي العرب»، وظل ينصح بذلك حتى مات.
ورغم كل ما تقدم، ظل كيسنجر حتى وفاته يدلى بدلوه ويلقى آذانًا صاغية «لنصائحه» بالأوساط السياسية ببلاده، بل ودوليًا للأسف.
وهو لم يحرم العالم من شره حتى الرمق الأخير. فقد قال رأيه بعد العدوان الصهيوني على غزة، فقرر للعرب والفلسطينيين ما يفعلون! فهو «نصح» بالتخلي عن حل الدولتين، وباقتصار أي مفاوضات مستقبلية على «الدول العربية وإسرائيل» بدلًا من «الفلسطينيين وإسرائيل»، مؤكدًا أنه لا أمل من أي مفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين!
والحقيقة أن حل الدولتين لم يعد متاحًا بسبب الاستيطان الذي أتى على الأرض التي كان يُفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية. لكن هذا لم يكن السبب وراء موقف كيسنجر.
فالسبب عنده هو أن إسرائيل كانت قد «منحت» (لاحظ معنى كلمة «منحت» تلك) غزة «استقلالًا نسبيًا» كاختبار (للفلسطينيين طبعًا) لإمكانية إقامة الدولة الفلسطينية..
لكن الأمور صارت أسوأ. لذلك فلا مجال، عنده، لإقامة دولة فلسطينية! والحل عنده أن توضع الضفة الغربية تحت سيطرة الأردن. أما غزة نفسها فلا أظنها سقطت سهوًا من حواره وإنما أسقطها عمدًا، هو أو محاوره!.
{ باحثة في العلوم السياسية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك