رغم التقصير الذي أبدته محكمة العدل الدولية في عدم دعوتها إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، ورغم العيب المتضمن في الحديث عن الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين من دون ذكر ضرورة الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين ومنهم أطفال قصر، ومختطفون بالآلاف في القطاع، فإن حكم محكمة العدل الدولية بقبول الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل المتهمة بجريمة الإبادة الجماعية يمثل تحوّلاً تاريخياً جرّد إسرائيل، أول مرة منذ 75 عاماً، من حصانتها أمام القانون الدولي، وتهربها الدائم من المساءلة، بدعم من الولايات المتحدة والدول الغربية.
إذ فقدت إسرائيل تلك الحصانة التي كانت تجعلها فوق القانون الدولي للمساءلة، حتى بعد أن صدر حكم استشاري قاطع بعدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي بنته، وعدم شرعية استيطانها الاستعماري، وعدم شرعية إجراءات الضم والتهويد التي تقوم بها في القدس المحتلة.
والمفارقة هنا أن اتفاقية الإبادة الجماعية التي أنشئت أساساً بسبب ما تعرض له اليهود من جريمة الهولوكوست على يد النازية الألمانية، هو ذاته الذي تحاكم إسرائيل على أساسه بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
تحدد المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية الأفعال التي تسبب الإبادة الجماعية أنها قتل أعضاء المجموعة المقصودة (الشعب الفلسطيني). التسبب في أذى جسدي أو عقلي خطر للمجموعة. فرض ظروف معيشية على المجموعة تهدف إلى تدميرها الجسدي كليا أو جزئيا. فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة.
وقد رفضت محكمة العدل العليا طلب إسرائيل حذف الدعوى والقضية بحجة عدم الاختصاص، أو عدم وجود نزاع بين إسرائيل وجنوب إفريقيا، وقررت أن الشروط متوفرة بموجب نظامها الأساسي لاستيفاء تدابير مؤقتة في انتظار قرارها النهائي لحماية الحقوق التي تُطالب بها جنوب إفريقيا، والتي رأت المحكمة أنها معقولة وأن لديها السلطة لاتخاذ تلك التدابير.
وأكدت المحكمة أولا: على إسرائيل، وفقاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة، اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية المذكورة أعلاه، وأن على إسرائيل أن تضمن عدم قيام قواتها العسكرية بارتكاب أي من الأفعال المذكورة أعلاه. ثانيا: أن تضمن دولة إسرائيل بأثر فوري عدم ارتكاب قواتها المسلحة أياً من الأفعال المذكورة. ثالثا: أن تتخذ دولة إسرائيل كل التدابير في حدود سلطتها لمنع ومعاقبة الحث العلني (التحريض) على ارتكاب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة. رابعا: أن تتخذ إسرائيل تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية التي هي حاجة عاجلة لعلاج أوضاع الحياة السلبية التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة. خامسا: أن تتخذ إسرائيل تدابير فعالة لمنع تدمير الأدلة المتعلقة بادعاءات أفعال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. سادسا: أن تقدم إسرائيل تقريراً للمحكمة بكل التدابير التي اتخذتها لتنفيذ هذا الأمر خلال شهر من تاريخه.
ومن الأمور المهمة أن جميع قضاة المحكمة، ما عدا واحدة قاضية من أوغندا، صوّتوا لصالح القرارات الستة، أما القاضي المكلف من إسرائيل فاعترض على أربعة من القرارات ووافق على الثالث والرابع. وسارعت أوغندا للتنصل من أي مسؤولية عن تصويت القاضية الأوغندية المعروفة بغرابة أطوارها، وكانت أكثر انحيازاً لإسرائيل من القاضي الإسرائيلي نفسه.
وإذا تمعنّا في مضمون قرار محكمة العدل الدولية ومستنداته، والذي أنصح المهتمين بقراءته كاملاً، وعدم الاستناد إلى التعليقات العابرة، وبعضها جاهل، لأن قرار المحكمة يفتح الباب على إدانة إسرائيل بارتكاب كبرى الكبائر في العرف الإنساني المعاصر، وهي جريمة الإبادة الجماعية، ولأن خلاصته تؤدي إلى أن من المستحيل على إسرائيل أن تنفذ قرارات المحكمة الستة من دون وقف شامل وكامل ودائم لإطلاق النار. إذ كيف يتوقف جيش الاحتلال عن قتل المدنيين وعدم إيذائهم جسدياً وعقلياً من دون وقف إطلاق النار، وكيف يمكن أن يسمح للسكان بالعودة إلى منازلهم، وترميمها لتوفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية، وعلاج أوضاع الحياة السلبية لسكان قطاع غزة، دون وقف إطلاق النار... إذاً، ورغم عدم نطق المحكمة بقرار وقف إطلاق النار، فإن تنفيذ كل قراراتها مشروط بوقف إطلاق النار، خصوصا أن إسرائيل مُلزمة خلال شهر بتقديم تقرير عن كل ما قامت به لتنفيذ قرارات المحكمة.
الخطوة الطبيعية التالية لقرار المحكمة هو ما يمكن أن تقوم به الجزائر، بصفتها عضواً في مجلس الأمن، بطرح قرار منه يدعو إلى وقف شامل ودائم لإطلاق النار شرطاً ضرورياً لتنفيذ قرارات المحكمة. وإذا ما قررت الولايات المتحدة استخدام حق النقض (الفيتو) مجدداً لتعطيل القرار فستُصبح هي نفسها متّهمة بتسهيل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولن يمنع هذا الفيتو الجزائر والدول الصديقة من التوجه مجدداً إلى الجمعية العامة لاتخاذ قرار جديد بوقف إطلاق النار. ومن ناحية أخرى، ما قرّرته محكمة العدل الدولية، وما نشأ عنه بكون إسرائيل متهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية يمثل منطلقاً لتصعيد غير مسبوق في حملة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات ضد إسرائيل، حتى تنهي احتلالها ونظامها العنصري ومنظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي التي أنشأتها.
ولا شك أن تركيز المحكمة على ضرورة توفير الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية لسكان قطاع غزة، وإلزام إسرائيل بذلك، فرصة واختبار لإرادة الدول العربية والإسلامية السبع والخمسين التي اتخذت قراراً بكسر الحصار على قطاع غزة، ولكنها لم تحوله إلى أفعال، وإذا توفرت الإرادة تستطيع تنفيذ ما اقترحناه سابقاً من تشكيل قافلة إنسانية تضم ممثلين عن جميع دولها تحمل أعلامها، وتدعو المؤسسات الإنسانية الدولية لمشاركتها في كسر الحصار غير الشرعي الذي تفرضه إسرائيل على معبر رفح، الذي لا يحق لإسرائيل السيطرة عليه. وفقط، بمثل هذا الإجراء يمكن إنقاذ حياة مئات آلاف الفلسطينيين الذين يموتون يومياً بسبب القصف الإسرائيلي والأمراض التي بدأت تفتك بهم، وانعدام مقومات الحياة الأساسية، وتعرضهم لأمراض جديدة بسبب غرق خيامهم الهزيلة وملابسهم وأجسادهم في مياه الأمطار وفيضان شبكات المجاري.
أسوأ ما تبع قرار محكمة العدل الدولية الإجراء الشائن، والذي كان مبيتاً على ما يبدو، لجذب الأنظار عن قرار المحكمة ولتصعيد الهجمة على الفلسطينيين من الولايات المتحدة وعشر دول غربية أخرى، بوقف المساعدات لوكالة الغوث الدولية، وهي الجسم الرئيسي الذي يؤمن وصول المساعدات الشحيحة إلى قطاع غزة، بحجة اتهامات إسرائيلية مشكوك في صحتها لبعض موظفي وكالة الغوث، وهي اتهامات لم يتم التحقيق فيها بعد. وحتى لو كانت صحيحة، فإنها لا تبرر ارتكاب جريمة العقوبات الجماعية ضد جميع مؤسسات وكالة الغوث الدولية وخدماتها، وضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ودول أخرى. مع العلم أن هذه الدول الغربية لم تقم بإجراء واحد ضد إسرائيل لقتلها الوحشي ما لا يقل عن 150 من موظفي وكالة الغوث في أثناء تقديمهم الخدمات الإنسانية.
ومثَّل الفعل القبيح بوقف تمويل وكالة الغوث تعرية إضافية للانحياز الغربي الواسع لإسرائيل بغض النظر عن بشاعة الجرائم التي ترتكبها، وهو يمثل في الواقع مشاركة في جريمة «فرض ظروف معيشة على مجموعات من السكان تهدف إلى تدميرها كلياً أو جزئياً» وهو ما تعتبره اتفاقية الإبادة الجماعية نوعاً من ممارسة الإبادة الجماعية، ومن المشروع في هذه الحالة التفكير بأن الضغوط الجديدة على وكالة الغوث الدولية تعبر عن النية الخطيرة والقديمة تصفية حقوق اللاجئين الفلسطينيين، ووكالة الغوث، التي شكلت أساساً لرعايتهم حتى عودتهم، حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194.
ويصحّ في ما جرى شطر البيت المعروف «لقد جاوز الظالمون المدى»، ولكن لا ظلمهم ولا تقاعسهم، ولا انحيازهم العنصري لإسرائيل ودفاعهم عن عدوانها، يمكن أن يكسر إرادة الشعب الفلسطيني وتصميمه ونضاله من أجل الحرية، وإن كان بدّد إلى الأبد أوهاماً سيطرت على وعي كثيرين بشأن تبنّي تلك الدول لقيم القانون الدولي وحقوق الإنسان والديمقراطية، وهي أوهام تبخّرت إلى الأبد على رمال قطاع غزّة الصامد ببطولة لأبشع جريمة إنسانية في عصرنا الحديث.
{ الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك