عبر سلسلة متصلة من المقالات أشرت إلى مواقف الأطراف الإقليمية والدولية تجاه تهديدات الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، ويأتي هذا المقال استكمالاً لتلك السلسلة من خلال الحديث عن تأثير تلك التهديدات في أمن دول الخليج العربي وخياراتها لمواجهتها وأبرز تحدياتها.
وبادئ ذي بدء توجد ثلاثة مداخل مهمة لتحليل تلك التهديدات أولها: أن تهديدات الملاحة البحرية في تلك المنطقة لم تكن مرتبطة بتطورات الأمن الإقليمي الدراماتيكية خلال الأشهر القليلة الماضية ولكنها ممتدة منذ سنوات توتراً أو هدوءا وفقاً لحالة الأمن الإقليمي ذاتها، وثانيها: إعادة تأكيد مفهوم التهديدات المشتركة التي تعكس تشابك مصالح الدول على نحو غير مسبوق، بمعنى آخر إنه لا توجد دولة لا تحتاج إلى التجارة عبر البحار ضمن مسافات ممتدة تواجه فيها تجارتها مخاطر جمة مما يؤكد مجدداً أهمية التحالفات الدولية لمواجهة مثل تلك التحديات، وثالثها: انتقال المواجهات بين الدول والجماعات دون الدول من البر إلى البحر الذي يتسم بطبيعة وقواعد مغايرة تماماً، ناهيك عن توظيف التكنولوجيا في تلك المواجهات.
وانطلاقاً مما سبق فإن تهديدات الأمن البحري في مضيق باب المندب والبحر الأحمر تعد تحدياً هائلاً لدول الخليج العربي من أكثر من زاوية فأولاً: لم تخل دراسة من توصيف دول الخليج العربي كونها دولاً بحرية وليست حبيسة بما يمنحها فرصا ويفرض عليها استحقاقات ترتبط بمسألة الحفاظ على انتظام التجارة عبر الممرات الاستراتيجية التي تطل عليها تلك الدول وتعد شرايين التواصل مع دول العالم كافة، ثانياً: تأثير تهديد صراعات البحار في المشهد الجيواستراتيجي، فالمسألة ليست خلافات على حدود بحرية على غرار مناطق أخرى ولكن نقل الصراعات من البر إلى البحر مع دول وجماعات دون الدول بما يرتبه ذلك من مشهد لا يخلو من تعقيد من خلال الفعل والفعل المضاد الذي لن تكون آثاره وقتية ولكن ربما ترتيبات أمنية تطال المنطقة توافقاً أو تعارضاً مع مصالح أطرافها، ثالثاً: إعادة النقاش مجدداً حول مفهوم الأمن الإقليمي وهل لا يزال يتضمن دول الجوار فحسب؟ أم الامتدادات الجيواستراتيجية مثل القرن الإفريقي وشرق المتوسط؟ صحيح أن دول الخليج العربي لم تكن ببعيدة عن تلك الامتدادات خلال السنوات الماضية، بيد أن التساؤل هو هل كان ذلك سياسات وقتية أم ضمن استراتيجية تتسم بالشمول والتكامل؟
ولست بحاجة إلى إعادة تأكيد الأهمية البالغة لمضيق باب المندب كممر مائي استراتيجي حيث شهد مرور حوالي 13% من إجمالي النفط المنقول بحرياً خلال النصف الأول من عام 2023 وحوالي 8% من تجارة الغاز الطبيعي المسال بما يعنيه ذلك من التأثير المباشر على المصالح الحيوية لدول الخليج العربي فبعضها أعلن الإيقاف المؤقت لناقلات النفط عبر البحر الأحمر والبعض الآخر أعلن تأثر شحناتها بالإضافة إلى التهديدات الأمنية، فحالة الفوضى الأمنية في منطقة القرن الإفريقي تتيح زيادة موجات الهجرة غير الشرعية لليمن ومن ثم لدول الخليج العربي، ناهيك عن زيادة وتيرة تهديدات القرصنة مجدداً والتي تؤدي إلى تحديات مباشرة تتمثل في زيادة فاتورة التأمين على السفن وكذلك أسعار الشحن وهو ما ينعكس في النهاية على المستهلكين في دول العالم كافة، وتشير بعض التقديرات إلى أن الهجمات على السفن في البحر الأحمر أجبرت حوالي 18 شركة نقل عالمية على تغيير مسارها نحو طريق رأس الرجاء الصالح الذي يستغرق وقتاً أطول ومن ثم لن يكون النقل البحري مناسباً لنقل البضائع سريعة التلف، بالإضافة إلى المخاطر التي قد تواجهها السفن في تلك الرحلة البديلة.
ومع أهمية ما سبق ثمة تساؤل يطرح ذاته هل ارتبط تعامل دول الخليج العربي مع تلك التهديدات بشكل وقتي ومفاجئ؟ أم أنه كانت هناك خطط واستراتيجيات مسبقة بشأن مواجهة تهديدات الأمن البحري؟
أشرت في مقالات سابقة لجهود دول الخليج العربي لتطوير قدراتها البحرية والتي حظيت باهتمام كبير خلال العقد المنصرم منذ عام 2014 وحتى الآن وتسارعت وتيرتها خلال السنوات الخمس الماضية ليس فقط على صعيد تطوير القدرات البحرية بما يتلاءم وطبيعة التهديدات الجديدة ولكن أيضاً ضمن مسارات فكرية أصبح فيها الأمن البحري أحد أهم المقررات الدراسية في كليات الدفاع الوطني في دول الخليج ومادة ثرية لمحاضراتها وفعالياتها، وكذلك مراكز البحوث المعنية، ولكن يظل هناك تساؤل مهم مفاده أي المسارين تتجه جهود مواجهة تهديدات الأمن البحري: الردع أم المواجهة العسكرية؟ من وجهة نظري كباحث مهتم بالأمن الإقليمي والبحار جوهر تهديدات ذلك الأمن، يبقى الردع مهماً ولكن تظل تلك الآلية مهمة إذا ما تناسب رد الفعل مع الفعل، بمعنى آخر إرسال رسالة إلى الطرف الآخر بأن إقدامه على عمل ما يتجاوز ما يطلق عليه «الخطوط الحمراء» سيكون باهظ الثمن، وربما تحقق ذلك بشكل جزئي في بيئة التوترات الراهنة في باب المندب والبحر الأحمر ولكن لم يبلغ الأمر منتهاه ضمن مواجهات تحتمل كل السيناريوهات في ظل توافق واختلاف الأطراف الإقليمية والدولية بشأن كيفية تحقيق الاستدامة الأمنية في تلك المنطقة، فبعض السفن قررت تغيير وجهتها والبعض الآخر آثر المضي قدماً في الإبحار عبر ذلك المضيق، وبافتراض إخفاق الردع وزيادة التهديدات هل يعني ذلك أنه سوف تكون هناك مواجهة عسكرية في تلك المنطقة؟ تساؤل له وجاهته فأمن الطاقة والممرات المائية مصالح حيوية ومجال لاختبار القوة والنفوذ، صحيح أن خبرات القوى الكبرى تؤكد أن الردع كان هو الخيار الأول ومن ذلك تحالف الراغبين الذي قادته إدارة الرئيس ريجان خلال الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات لحماية ناقلات النفط من العراق وإيران ولكن ربما تجبر القوى الكبرى على الدخول في مواجهة عسكرية حتى وإن لم ترغب في ذلك، فخلال تلك الحرب أصيبت سفينة حربية أمريكية بصاروخين مما أدى إلى مقتل عدد من أفرادها وفي ظل حوادث أخرى متزامنة اضطرت البحرية الأمريكية للدخول في مواجهة مباشرة مع نظيرتها الإيرانية كانت نتيجتها إغراق نصف الأسطول الإيراني خلال يوم واحد، والعديد من المنشآت النفطية الإيرانية «معركة اليوم الواحد».
ولا يعني ذلك أننا أمام سيناريو مشابه ولكن في ظل المشهد الإقليمي الراهن الذي يزداد تعقيداً بل وضبابية حول أي مسار سوف يتجه على خلفية تأثير تطورات الأمن الإقليمي على أهم قطاع حيوي لاقتصادات دول الخليج العربي فإنها معنية جميعها بمسألة الأمن البحري في تلك المنطقة سواء اتخذ الأمر تحالفات أو العمل ضمن تنظيمات الأمن الإقليمي أو مدونات سلوك لمكافحة القرصنة كرؤية استراتيجية بعيدة المدى ليس فقط من منظور اقتصادي ولكن بشأن الحفاظ على توازن القوى الإقليمي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك