يقول رمزي المنياوي في مقدمة كتابه (الفوضى الخلاقة): «قبل سنوات، وفجأة ودون سابق إنذار، خرجت أمريكا على العالم –لأول مرة– وعلى لسان وزيرة خارجيتها –آنذاك– كونداليزا رايس بمصطلح غريب اسمه (الفوضى الخلاقة) يحمل رؤيتها للطريقة المثلى –من وجهة نظرها– لتغيير الشرق الأوسط نحو الأفضل.
ولم تمض ثوان على نطق رايس بهذا المصطلح، حتى انقلب العالم رأسًا على عقب، للبحث عن أمرين: ما تقصده أمريكا من (فوضتها الخلاقة)، و(ما الأفضل للشرق الأوسط) بالنسبة إليها.
وبينما يطرح العالم، وخاصة العرب والمسلمين (الفوضى الخلاقة) على مائدة البحث، كانت الجيوش الأمريكية تواصل التدمير في أفغانستان والعراق، وتلعب بأصابعها المخضبة بآثار فطيرة الدم الصهيونية المصنوعة من أجساد ودماء ضحايا دولة الاحتلال في مناطق أخرى كاليمن والسودان والصومال وغيرها من بقاع العالم الإسلامي».
ولكن الحقيقة التاريخية تقول إن نظرية (الفوضى الخلاّقة) ظهرت للمرة الأولى عام 1902م على يد المؤرخ الأمريكي (ألفريد تاير ماهان)، ثم توسعت فيما بعد عن طريق (مايكل ليدين) وتم تسميتها (الفوضى البناءة) وذلك في 2003م، وهذا يعني إشاعة الفوضى، وتدمير كل ما هو قائم، ومن ثم إعادة البناء حسب المخطط الذي يخدم مصالح القوى المتنفذة، وربما يكون أكثر المفكرين تحدثًا عن هذه النظرية هو صاحب نظرية صراع الحضارات الأمريكي اليميني (صامويل هنتنجتون). وبعد ذلك تلقفتها مراكز البحوث والدراسات وأشبعتها بحثًا ودراسةً.
ماذا يعني مصطلح (الفوضى الخلاقة)؟
تقول الباحثة دينا رحومة فارس فايد في دراستها (الفوضى الخلاقة وتداعياتها على الأمن الإقليمي)، إن مصطلح الفوضى الخلاقة «يتميز بقدر كبير من الالتباس والتأويل يصل إلى حد التحايل والتلاعب اللفظي لوصف حقبة سياسية تاريخية صاخبة، وبمسار خارج المألوف الطبيعي للخطاب السياسي الفكري التقليدي، عبر بناء نسيج من المتقابلات المختلفة للمصطلحات تهدف إلى تحقيق استراتيجية معينة ومنهج لإدارة المصالح الأمريكية والغربية في المناطق التي تتركز فيها تلك المصالح.
الفوضى الخلاقة هي خلاقة بالنسبة إلى مصالح أمريكا والغرب، وغير خلاقة، بل مدمرة بالنسبة إلى الأوطان والشعوب الأخرى، وهذا المصطلح ينشط في حيز العولمة الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة وهو يجمع بين متناقضين متقاطعين هما (فوضى، وخلاقة)، ويفهم من المصطلح أن عنصر الأفكار الرصينة والمنظمة والأيديولوجيات الكبرى فات أوانها، وعلى المجتمعات أن تسلك ممرات كثيرة للوصول إلى الجزيرة والاستقرار.
كما يمثل مصطلح الفوضى الخلاقة أحد أهم المفاتيح التي أنتجها العقل الاستراتيجي الأمريكي في التعامل مع القضايا الدولية، حيث تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الأكاديمية وصُناع السياسة في الولايات المتحدة، وعلى خلاف مفهوم الفوضى المثقل بدلالات سلبية كعدم الاستقرار أضيف إليه مصطلح آخر يتمتع بالإيجابية، وهو الخلق أو البناء، ولا يخفى خبث المقاصد الكامنة في صلب مصطلح (الفوضى الخلاقة) لأغراض التضليل والتمويه. ولعل أبسط تعريف للفوضى الخلاقة هو أنها «حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث»، فهي أحداث متعمدة لفوضى بقصد الوصول إلى موقف أو واقع سياسي يرنو إليه الطرف الذي أحدث الفوضى. ويبدو من هذا المفهوم أن (الفوضى الخلاقة) أقرب إلى مفهوم (الإدارة بالأزمات) في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل.
فالإدارة بالأزمات هي علم وفن صناعة الأزمة وافتعالها وإدارتها بنجاح لغرض مصالح محددة، ويترتب على هذا النوع من الأزمات تفكيك للمنظومة المعنية أو المستهدفة، مما يسهل الولوج إلى مكوناته الأساسية، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار كلى للنظام، وإعادة تشكله بطريقة تعكس تلك المصالح.
وتشبه الفوضى الخلاقة حالة العلاج النفسي، إذ يذهب (مارتن كروزرز) – وهو مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي – أن الفوضى إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات، فيصبح قادرًا على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به».
ويمكن الاستنتاج –هنا– أن النظرية تعني باختصار أنه عندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنَّه يُصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة تخدم مصالح الجهة المنفذة.
ويمكن أن تشبه أيضًا الاستراتيجية البريطانية (فرق تسد) في بعض الجوانب، وفَرِّق تَسُدْ هو مصطلح سياسي عسكري اقتصادي، ويعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة لتصبح أقل قوة وهي غير متحدة مع بعضها البعض، مما يسهل التعامل معها، كذلك يتطرق المصطلح للقوى المتفرقة التي لم يسبق أن اتحدت والتي يراد منعها من الاتحاد وتشكيل قوة كبيرة يصعب التعامل معها. ومن أشهر المناطق التي رسمت وفق سياسة فرّق تسد، كانت منطقة الوطن العربي، التي قُسِّمت بحسب رؤية كل من سايكس - بيكو، للحيلولة دون قيام اتحاد عربي قوي.
وخلصت العديد من الدراسات التي عدنا إليها من أجل كتابة هذا المقال إلى أن دول الغرب في إطار هذه النظرية تسعى إلى استنزاف الدول العربية الإسلامية، وذلك من خلال الانقسامات في الدولة الواحدة وتنمية الفوضى لإيجاد كيانات جديدة في المنطقة، من شأن هذه الجماعات أن تسهم في تعزيز حالة الانقسام العربي الإسلامي، كل هذا بهدف تمكين الكيان المحتل للهيمنة والتفرد في الشرق الأوسط، مستخدمة بذلك كل الأدوات والأسلحة غير الفتاكة؛ مثل: الإعلام، وتغير المناهج الدراسية والقوة الناعمة ومنظمات المجتمع المدني وإثارة الأقليات والطوائف، ومتذرعة بحقوق الإنسان والانفتاح الاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري وما إلى ذلك.
وترتكز هذه النظرية على الأسس التالية:
التغير الكامل في الشرق الأوسط،
إعادة بناء المنطقة بعد هدم الأسس الثقافية والفكرية بحسب ما يراه المحتل.
وضع تغيرات شاملة لجميع الجوانب على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وما إلى ذلك حسب ما تراه دول الغرب ودولة الاحتلال.
ويمكن القول إن هذه النظرية لا تستهدف فقط حفظ المصالح الغربية المتمثلة في النفط والموارد الطبيعية والممرات البحرية، وإنما تستهدف في الدرجة الأولى إدخال تغيرات جوهرية في أنماط الحياة وتغير السلوك ومعتقدات الشعوب العربية الإسلامية واستبدالها بمفهوم التعايش مع كل ما يأتي من الغرب من أخلاقيات وقيم حتى وإن كانت لا تتناسب مع المعتقدات العربية الإسلامية.
ماذا يمكننا أن نفعل؟
وعلى الرغم من كل ما يحاول الغرب بكل أطيافه والشرق كذلك من تفتيت الوطن العربي، وإعادة مشروع (تركة الرجل المريض) فإنه ينبغي على المنظمات والدول العربية أن تعيد التفكير في عديد من الأمور المحورية والأساسية في الأوطان، ولقد تحدثنا عن ذلك عدة مرات، فإنه ينبغي أن نعيد التفكير في:
التعليم ومناهجنا الدراسية: تقوم العديد من الدول العربية الإسلامية بتغيير المناهج الدراسية وفقًا لما يريد الغرب والشرق، وخاصة في الجزئيات التي تختص بالأخلاقيات والسلوك والقيم، إذ بات بعض الدول تتساهل في الزج بموضوع الشواذ في المناهج، وإزالة الآيات الكريمة التي تبين تاريخ الاحتلال والاستعمار وما إلى ذلك، على اعتبار أن كل هذا لا يتوافق مع منظومة الشرق الأوسطية والعولمة الجديدة، ولكن هل لنا أن نسأل هل قامت دول الشرق أو الغرب بتغيير مناهجها الدراسية بما يتوافق مع المنظومة الجديدة، أم علينا حرام وعليهم حلال؟
الإعلام والمنظومة الإعلامية: أصبحت الدراما العربية لا تختلف عن كل الأفكار والأطروحات التي تطرحها الدراما الغربية، فأبطال وبطلات المسلسلات والأفلام العربية بكل بساطة يلبسون كما يلبس ممثلون الغرب والشرق، ويتعاطون المخدرات والمسكرات، ويمارسون الرذيلة بكل وقاحة، ويخونون ويسرقون وكأن الأمور هكذا لها أن تكون، فهل الدراما العربية تعكس واقع المجتمعات العربية الإسلامية الذي ينبغي أن يحافظ على القيم والمبادئ السامية، أم إننا لا نؤمن أننا أصحاب مبادئ وقيم راقية؟
الصناعة وبناء المنظومة الصناعية: أشرنا عدة مرات، إننا في الوطن العربي الكبير نعتمد في حياتنا الصناعية والغذائية وكل شيء على ما نستورده من الغرب، ربما ننتج بعض المنتجات من هنا وهناك، ولكن عندما نأتي ونقارن ما ننتجه بما نستورده نجد إننا نستورد كما كبيرا من كل شيء، وحتى الإبر الطبية نستوردها من الخارج، وإن قال أحدنا إننا اليوم نصنعها في حدود أوطاننا، يمكننا أن نقول إنه للأسف أن هذه المصانع إما أن تكون غربية أو شرقية، وقمنا نحن – كدول عربية – باستضافتها عندنا في حدود أوطاننا وعلى أرضنا حتى تنتج لنا، ولكن في الحقيقة إن هذه المصانع مستوردة وليست عربية الأصل، ولهذا فنحن نحتاج إلى تصنيع وزراعة وإنتاج قائم على المواطن والعقل واليد العربية، عندئذ يمكننا أن نستقل عن الغرب والشرق.
الاقتصاد العربي الإسلامي: وعندما نتحدث عن الصناعة والزراعة فإننا في الوطن العربي نحتاج إلى اقتصاد لا يهيمن عليه الدولار أو اليورو أو أيا كانت تلك العملات الآتية من الشرق والغرب، وإنما ينبغي علينا أن نتحرر من البنوك الرأسمالية الغربية وأن يكون لنا اقتصاد قائم بذاته، وهذا لا يعني أن ننزوي عن كل الاقتصاديات وإنما الفكرة أن نتحرر عن الاقتصاد الرأسمالي.
هذه بعض الأفكار، وكما نقول دائمًا نحن لا نريد أن ننزوي في ركن مظلم من العالم، ولكن نريد أن نجد الوطن العربي وحدة واحدة يقدم للعالم ما هو الأفضل.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك