يقول تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (225)) إبراهيم.
وتساءلت لماذا يضرب الله تعالى الأمثال بالشجر للكلم الطيب هل لاشتراكهما في النمو والزيادة، وأن هناك عنصرًا مشتركًا هو الحياة؟!
وتذكرت قوله تعالى: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلامًا والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نقصت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) (لقمان).
إذًا، فدعونا نتدبر الآيتين (24، 25) من سورة إبراهيم، ونحاول أن نجد فيهما المخبوء من العطاء، فسنجد ذلك، أو شيئًا قريبًا منه في قوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة) إبراهيم / 24. لا شك أن المقصود بالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فهي أطيب الكلام، وهي أعظمه وأكثره بركة.
وقول الحق سبحانه وتعالى: (تؤتي أكلها) استمرار ودوام على العطاء لأن الفعل المضارع يفيد الحال والاستقبال، لهذا السبب لم يقل الحق سبحانه: «أتت أكلها بصيغة الماضي» لنفهم من ذلك لا نفهم أن عطاءها محدود، أما الفعل المضارع فإن عطاءه ممدود، وخيره لا حدَّ له لأن قول الحق: (كل حين) استغراق زمن العطاء ومكانه، وكل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالًا لأدنى شك على النمو المستديم في العطاء غير المقطوع، ولقد اختلف العلماء في معنى «الحين»، فمنهم من فهم «الحين» على أنه كل وقت قليلًا كان أو كثيرًا كما ذكرت القواميس العربية.
أما لفظ « الًناس» فهو يفيد العموم، وهذا يعني أن منهج الإسلام وشرائعه صالحة لكل الناس المؤمنين وغير المؤمنين، ولقد ثبت عن السادة العلماء المفسرين أن قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) هو خطاب تكليف للمؤمنين، فإذا سمع المسلم هذا الخطاب ألقى إليه سمعه ووعيه لأنه إما أمرٌ، وإما نهيٌ، أو دعوة إلى خلق حسن، أما النداء بـ(يا أيها الناس) فهو خطاب لجميع الناس: فيزداد بها المؤمن إيمانًا، ويهتدي غير المؤمن إلى ما فيها من الحق، وقد تكون سببًا في الدخول في الإسلام بعد أن يطهر عقيدته من الشرك الذي دخل على عقائد الناس، قال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) التوبة /30.
أما خطاب: (أيها الناس) فهو - كما أسلفنا - صالح للمؤمن ولغير المؤمن، وكل له مجاله، وله متعلقاته.
إذًا، فكلمة التوحيد هي الكلم الطيب التي ترتقي بالمؤمن إلى الدرجات العلا، يقول تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) فاطر/10. والعمل الصالح هنا بمثابة القوة الرافعة التي ترقى بالمؤمن إلى المكانة التي يرجوها.
وحين نتلمس السبيل السوي في ميادين الثقافة الذي يقودنا لا محالة إلى ما يتمناه المؤمن، ويسعى جاهدًا إلى تحصيل ثمار الثقافة، وقطوفها الدانية.. في هذه الحالة وحدها ودون سواها نستطيع أن نجزم وفِي غير تردد أننا قد فَعَّلنا الثقافة، وأنها قد آتت أكلها، وأينعت ثمارها، وأننا لم نستعجل نضجها وقطافها، بل تركناها تنمو نموًا طبيعيًا، ويتحقق معنى.. أتت أكلها، ولا تؤتي أكلها ما لم يتم ويستوي نضجها، ومعنى: {كل حين} تفيد أن طوال العام هناك ثمار تختلف باختلاف مواسمها، وهذا من فضل الله تعالى ومنه وكرمه.
وعلينا أن نفيئ إلى ظلها، ونستطيب هواءها، وننعم بما تبعثه من ريحها الطيب، وعبيرها النقي الفواح، والكلمة الطيبة حتى تكون كالشجرة المثمرة لابد أن يستنطق المسلم حكمها وأحكامها، ويستغني بها عن غيرها، كما ينبغي أن يستغني بأخلاقها عن أخلاق غيرها لأن مصدرها رباني بينما أخلاق غيرها وإن بدت للناس أنها أخلاق سوية لكنها أخلاق بشرية ليست مستقرة، وليس لها صفة الدوام والاستقرار، وفرق كبير جدًا بين أخلاق مصدرها الوحي، وأخلاق أصلها الاجتهاد البشري، فمثلًا النظافة في الإسلام خلق إيماني، بينما النظافة في غير الإسلام خلق حضاري وشتان بين ما هو سماوي، وما هو أرضي بشري.
ومثال آخر على الفرق بين تشريع البشر وتشريع رب البشر أن العقوبة في التشريع البشري تسقط بمضي المدة أي بمرور عشرين عامًا علي العقوبة بينما في الإسلام لا تسقط العقوبة مهما طالت المدة وتظل سارية المفعول حتى بعد وفاة القاتل أو من ارتكب الجرم، وخير للقاتل أو المجرم أن يعاقب في الدنيا لأن المجال أمامه واسع لتعويض ما خسر من الحسنات، وأن يحدث لكل ذنب توبة، أما في الآخرة فلا مجال لذلك وإنما هي مقاصة بين الحسنات والًسيئات: (فأما من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية (7) وأما من خفت موازينه (8) فأمه هاوية (9) وما أدراك ما هي (10) نار حامية (11)) القارعة.
إذًا، فخير لمن ارتكب جرمًا أو سفك دمًا أن ينال العقوبة على جرمه في الدنيا خير وأجدي من أن يظل هذا الجرم في عنقه حتى يوم القيامة حيث حساب ولا عمل، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذًا ارتكب أحدهم جرمًا يسارع إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليه العقوبة، وهم يرون أنها مطهرة لهم من الذنوب والمعاصي ليلقى الله تعالى الواحد منهم بتوبة نصوح حتى لا يشار إليه من إخوانه بأنه صاحب ذنب وإن تاب عنه.
هذه هي الثقافة بمعناها الواسع المستغرق لكل المعاني.. إنها شجرة مثمرة قطوفها دانية، وظلها ظليل، وعطاؤها غير مقطوع، ولا ممنوع، ولا مجذوذ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك