في أواخر يناير2024، أعلنت الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وأستراليا، وكندا، وإيطاليا، وهولندا، وسويسرا، وفنلندا، والنمسا، واليابان، ومعها عدد من الدول الغربية –بلغ عددها 18 دولة حتى كتابة هذه السطور- تعليق تمويلها لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونروا؛ بسبب مزاعم وادعاءات إسرائيل بتورط عدد من موظفيها في هجوم حماس عليها في السابع من أكتوبر الماضي.
وعلى الفور، توالت ردود الفعل العالمية الغاضبة على هذه الخطوة التي تصب في مصلحة تنفيذ المخطط الإسرائيلي بتصفية القضية الفلسطينية من خلال دفع المجتمع الدولي إلى التخلي عن مسؤولياته في إغاثة اللاجئين الفلسطينيين، والتي تم اتخاذها من دون انتظار نتائج تحقيقات الأمم المتحدة في المزاعم الإسرائيلية، وخاصة أن هذه الادعاءات طالت 12 موظفا فقط من أصل 13 ألف موظف يعملون بها، وعلى الرغم أيضا من تاريخها الممتد لأكثر من 76 عاما في مساعدة اللاجئين الفلسطينيين دون أدنى شبهة حولها.
ومن ثمّ، تم التحذير من تبعات هذه الخطوة على المدنيين المحاصرين في قطاع غزة، وفي جميع المناطق التي تغطيها الوكالة، حيث تعد كارثة إنسانية، ووصمة عار جديدة على جبين المجتمع الدولي، ورضوخا لسياسة التحريض الإسرائيلي الممنهج، ضد الوكالة، كونها المصدر الأساسي للمساعدات الإنسانية لهم.
وتأسست وكالة الأمم المتحدة الأونروا، في نوفمبر عام 1948؛ لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين في كل من الأردن، ولبنان، وسوريا، والأراضي الفلسطينية المحتلة، وقطاع غزة، حيث تقدم الرعاية والمساعدة لحوالي 6 ملايين لاجئ فلسطيني، وتشمل خدماتها التعليم، والرعاية الصحية، والإغاثة، والبنية التحتية، وتحسين المخيمات، والاستجابة لحالات الطوارئ في أوقات النزاع المسلح، وتحصل على تمويلها عبر التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
من جانبه، أعرب المفوض العام لـ(الأونروا)، فيليب لازاريني، عن أسفه لهذا القرار في ظل صعوبة حصول الوكالة على دعم مالي فوري من مصادر أخرى، ما سيؤدي إلى استمرار تفاقم أوضاع النازحين الفلسطينيين في قطاع غزة من نقص الطعام، والمياه، والرعاية الطبية، والتعليم في ضوء استمرار إسرائيل في الغارات الجوية والهجمات البرية. فيما اعتبره المراقبون قرارا غير مسؤول، وبمثابة عقاب جماعي ذي دوافع سياسية، ضد الفلسطينيين، ويتوافق مع أحد الأهداف المعلنة للحرب الإسرائيلية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة، إلى لجوء أكثر من 1.7 مليون نازح إلى مباني ومؤسسات الأونروا، بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ومن المعلوم، أن مقراتها كانت هدفًا مباشرا ومتعمدا، للعديد من الهجمات الإسرائيلية؛ لإعاقة عملياتها الإنسانية. وبحسب الوكالة، قُتل 152 من موظفيها منذ أكتوبر2023، كما تضررت ودُمرت 141 من منشآتها؛ رغم أن مواقع الأمم المتحدة لها حصانة، والاعتداء عليها يعد انتهاكا صارخا، لقواعد الحرب الأساسية، والقانون الدولي، واتفاقيات جنيف.
وبكل المقاييس أدت هذه الهجمات إلى تقييد أعمال الإغاثة التي تقدمها الوكالة في غزة. ووثق جيمي ماكغولدريك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تَعَرُضّ موظفي الإغاثة لخطر الموت أو الإصابة؛ بسبب عدم وجود أجهزة لاسلكية أو بلاغات تؤمنهم. بالإضافة إلى وجود آخرين معرضين أيضًا للتهديدات الإسرائيلية، مثل منظمة أطباء بلا حدود.
ومما لا شك فيه، أن الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، تعلم علم اليقين بحجم الكارثة الإنسانية داخل قطاع غزة، والتي تُبَث من مختلف أنحاء العالم منذ أشهر بالصوت والصورة، فقد رفضت حكوماتها إنهاء هذه الحرب المستمرة، ووقف الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين، أو تسريع عملية نقل المساعدات الأساسية التي يحتاجونها، وعلى النقيض من ذلك، أعلنت وقف تمويلها للأونروا على الفور، ردًا على مزاعم وادعاءات إسرائيل؛ ما يدل على مدى افتقارها الشائن للزعامة الأخلاقية، والدبلوماسية، والسياسية، وانحيازها الصارخ إلى إسرائيل ومزاعمها.
وعلى الرغم من عدم الإعلان عن الطبيعة الدقيقة للاتهامات، فقد بدأت الأمم المتحدة، تحقيقاتها الخاصة، وأنهى لازاريني، بالفعل عقود الموظفين المتهمين، وأصر على أن وكالته سوف تتعاون مع سلطة مستقلة ومختصة قادرة على محاكمة الأفراد. ومع ذلك، فقد أصرت الدول الغربية على الانحياز بشكل كامل إلى الرواية الإسرائيلية، وأظهرت أنها لا تتورع عن التخلي بسهولة عن تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة للمدنيين الفلسطينيين.
وفي مواجهة هذه المواقف، ينبغي الإشارة إلى أن بعض الدول قد أبقت على موقف أخلاقي، ورفضت الانصياع للضغوط الإسرائيلية، ووقف الدعم المالي للوكالة، مع اعتراف مايكل مارتن، نائب رئيس الوزراء الأيرلندي، بأن الحاجة إلى الأونروا، لا تزال قائمة من أجل المساعدة في إنقاذ الأرواح، وإصرار الحكومة النرويجية بالمثل، على أن الدعم الدولي للفلسطينيين مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى.
ومن الجدير بالذكر أن إجمالي موارد الوكالة لعام 2022، والتي تبلغ 1.17 مليار دولار، كانت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وألمانيا، من بين أكبر الجهات المانحة لها، حيث قدمت واشنطن، (340 مليون دولار)، من هذا المبلغ، تليها ألمانيا (200 مليون دولار)، والاتحاد الأوروبي (114 مليون دولار). وأوضحت مجلة تايم، أن مجموع ما استقطعته تلك البلدان من تمويلها يمثل ما يقرب من 60% من ميزانيتها لعام 2022. ومع إشارة بيثان ماكيرنان، في صحيفة الجارديان، إلى مدى مكافحة الأونروا لجمع التمويل في السنوات الأخيرة -حتى مع الحفاظ على دعم الحكومات الغربية- فقد أدان العديد من الدول والمنظمات الحقوقية والناشطين الحقوقيين، الانهيار الوشيك للمساعدات الأجنبية داخل قطاع غزة.
وقد أثارت قرارات الحكومات الغربية انتقادات شديدة، من المدافعين عن حقوق الإنسان والجمعيات الحقوقية. وانتقد كريستيان بنديكت، من منظمة العفو الدولية، قرار المملكة المتحدة ووصفه بأنه صادم، ودعا إلى التراجع عنه فورًا، نظرًا إلى أن المدنيين الفلسطينيين الأبرياء هم من سيعاقبون بسببه. واتهم جان إيجلاند، أمين عام المجلس النرويجي للاجئين، الغرب بـالتهور، وحثهم على عدم تجويع الأطفال. كما رفضته هيلين كلارك، رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، ووصفته بأنه غير متناسب تمامًا، وأثنت على الطريقة التي تصرفت بها الأمم المتحدة، وردها السريع بإجراء تحقيقات على الاتهامات الموجهة ضد عدد من موظفي الأونروا.
ومع استنكار لازاريني، أيضًا لكيفية اتخاذ مثل هذه القرارات، بناءً على سلوك مزعوم لعدد قليل من الأفراد، وعدم الأخذ في الاعتبار ضرورة وإنسانية، المهمة المُلقاة على عاتق الوكالة؛ أشار كلاوديو فرانكافيلا، من منظمة هيومن رايتس ووتش، إلى معايير الدول الغربية المزدوجة؛ ففي حين أنها تغاضت عن جرائم الحرب الموثقة التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة، وانتهجت سياسة ثابتًة، لحماية إسرائيل من الإدانة والمساءلة الدوليين؛ فإنها لم تتوان عن اتخاذ إجراءات عقابية سريعة، بناء على الادعاءات التي طالت حوالي 12 شخصًا من أصل 13.000 عامل داخل غزة، واعتبرت ذلك ذريعة تكفي لوقف تمويل الوكالة.
علاوة على ذلك، وصف المراقبون وقف الدول الغربية تمويلها للوكالة بـالعقاب الجماعي. وأعربت كلارك، عن فزعها من العقاب الجماعي القاسي، على المدنيين المحاصرين في غزة، وأشارت كينيث روث، من منظمة هيومن رايتس ووتش، إلى أن تطبيق هذا القرار على المدنيين الفلسطينيين الذين دمرت الحرب منازلهم، وسبل عيشهم، يضاعف من العقاب الجماعي الذي تفرضه بالفعل إسرائيل، من خلال قصفها المدمر للقطاع.
وبشكل عام، تم إدانة استخدام المساعدات الإنسانية كأداة ضغط سياسية للحرب. واتهم المتحدث السابق باسم الأونروا، كريس جانيس، الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل، بشن هجوم سياسي منسق، على الأمم المتحدة، ووكالة الإغاثة التابعة لها في غزة، مضيفًا أن تصرفات هذه الدول تدعم اعتقاد الأخيرة بأنها لا يمكن كسب الحرب في غزة ما لم يتم حل الوكالة الأممية. ويتفق هذا الرأي مع تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، قبل أيام بأن حكومته تريد منع الأونروا من مساعدة المدنيين الفلسطينيين داخل غزة بعد الحرب.
ومع إصدار محكمة العدل الدولية، حكما بأن من مسؤولية إسرائيل منع الإبادة الجماعية في غزة؛ أشارت ميراف زونسزين، من مجموعة الأزمات الدولية، إلى أن توقيت اتهامات إسرائيل للوكالة يعد محاولة لصرف الانتباه، عن إدانتها من تلك المحكمة.
وبالإشارة إلى الانتقادات المزعومة، التي وجهتها بريطانيا إلى المحكمة بسبب هذا الحكم؛ رأت بنديكت، أن إنهاء تمويل لندن ذا الدوافع السياسية، للأونروا، يشير إلى أنها تعطي الأولوية لعلاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل والولايات المتحدة، قبل اهتمامها بالمحنة الكارثية للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
وعلى نطاق واسع، تتجلى في هذه الحرب سياسة الكيل بمكيالين، التي يتبناها الغرب في معاملته لإسرائيل والفلسطينيين. ففي حين أعربت الخارجية البريطانية، عن فزعها إزاء المزاعم التي وجهتها إسرائيل ضد موظفي الأونروا، ووصفتها نظيرتها الأمريكية، بأنها تثير القلق؛ فقد سارعتا إلى رفض ما أمرت به محكمة العدل الدولية، إسرائيل من اتخاذ كل التدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية في غزة، وضمان عدم ارتكاب المزيد منها، واتخاذ إجراءات لتحسين الوضع الإنساني. وفي حين تحاول لندن، تقويض شرعية المحكمة من خلال الادعاء بأن لديها مخاوف كبرى بشأن حيادها، فقد رأت واشنطن، أن القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، ضد إسرائيل لا أساس لها من الصحة.
وبينما حاولت وزيرة الشباب الأسترالية آن علي، تبرير قرار بلادها بقطع ما يقرب من 6 ملايين دولار من المساعدات المالية لغزة، على أساس أن هذا الأمر سيكون بشكل مؤقت؛ فإن الواقع يشير إلى ضرورة ضخ المزيد من المساعدات الإنسانية التي يشتد الحاجة إليها في القطاع. وبالفعل، حذر لازاريني، من المجاعة، التي قد تضرب المدنيين بغزة. وأوضح ماكغولدريك، أن العديد من الأدوية الضرورية يحظر نقلها إلى غزة نتيجة للضغوط الإسرائيلية، وأن الحصار المفروض على الوقود يعني أيضًا أن المستشفيات والمرافق الطبية القليلة التي لا تزال تعمل، يؤدي الأطباء عملهم فيها من دون كهرباء، وبالتالي، فإن تعليق تمويل الأونروا، يعني كما أكد لازاريني، أن شريان الحياة الدولي لشعب غزة ينهار.
وبالنظر إلى الكيفية التي أوقفت بها هذه الدول تمويلها للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين عبر تعليق عمل الأونروا، فإن نواياها لدعم أهداف الحرب الإسرائيلية المعلنة، والمتمثلة في منع تلك الوكالة من دعم المدنيين في القطاع، قد أصبحت واضحة، حيث لم تقترح أي دولة وسيلة بديلة لإرسال الاحتياجات الضرورية من الغذاء، والماء، والوقود، والإمدادات الطبية، على الرغم من وجود العديد من الجمعيات الخيرية، والوكالات الأخرى النشطة في هذا المجال.
على العموم، بينما أدرك الناشطون في مجال حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية والحقوقية، وكثير من دول العالم، حجم التأثير الكارثي لتعليق مساعدات الأونروا، في غزة والأراضي المحتلة؛ يبدو من الواضح أن الحكومات الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، ولندن، وبرلين، وباريس، وبروكسل، تؤيد ذلك بوضوح للدرجة التي باتت معها تتجاهل عمليات الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والمأساة الإنسانية، التي سببتها الحرب الإسرائيلية، بحق المدنيين الفلسطينيين، في سبيل اهتمامها بدعم أهداف الحرب الإسرائيلية، على الرغم أن هذه الدول نفسها تزعم أنها حامية حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، واحترام القانون الدولي.
وعليه، تُظهر حالة الصمت والتخاذل الدولي -وخاصة من الدول المشار إليها- على العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، كيف يمكن لقوات الاحتلال مستقبلاً أن تستمر في جرائمها بإلحاق أضرار بشرية ومادية هائلة بهم، دون أي تداعيات أو عواقب أو مساءلة دولية من مؤيديها الغربيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك