بالتزامن مع معركة خانيونس التي يبدو أن جيش الاحتلال يعوّل كثيراً عليها وفق حسابات لم يثبت صحة اي منها حتى اللحظة، بالتزامن مع ذلك تنشط التصريحات الأمريكية والأوروبية حول وجوب قيام (دولة فلسطينية).
أمام المشاركة الفعلية لأمريكا في حرب الإبادة ورفضها لوقف إطلاق النار، ذلك المطلب العالمي، وكذلك أمام عقلية بوريل الذي يرى العالم خارج أوروبا، ونحن منه، أدغالا تهدد حديقته الأوروبية الجميلة، أمام حقيقة هذين الرجلين/ الموقفين، ينبغي لقرون الاستشعار أن تتحرك عندما يعلنان (مطلبهما) بوجوب قيام دولة فلسطينية. فما الذي دفع ممثلا التكتلين الإمبرياليين بامتياز، أمريكا والاتحاد الأوروبي، أن يعزفا على وتر (الدولة) في هذا الوقت.
أولاً: هناك حقيقة عجز جيش الكيان عن تحقيق أي من أهدافه عبر حملته العسكرية التدميرية غير المسبوقة على القطاع، وتلك حقيقة باتت معروفة، ولذلك يجب التدخل الأمريكي والأوروبي لمحاولة تحقيق تلك الأهداف عبر السياسة، طالما فشل الجيش بتحقيقها عبر الإبادة.
أما كيف سيكون ذلك فلم يخفِ الرجلان ذلك، وخاصة بايدن وإدارته. (دولة) منزوعة السلاح، ومن دون حماس، وبعد (إصلاح) السلطة الفلسطينية، (إصلاح) بحسب ما يبدو من شروحات الأمريكيين، اي تحويلها، وصراحة، من متعاون بحسب اتفاقية أوسلو، مع ان نتنياهو يرفض حتى تعاونها، لعميل صريح يجهزونه عير (الإصلاح) ليعود لغزة على رأس دبابة احتلالية، وبالتالي يحققون عبر ذلك، تصفية القضية وتصفية المقاومة و«حماس» عبر السياسة، طالما لم يحققوا ذلك عبر التدمير والتقتيل والتجويع والإبادة.
ثانياً: ولما كان من النتائج الأبرز للمقاومة وتضحيات شعبنا في معركة الطوفان أن عادت القضية الوطنية كقضية تحرر وطني من الاستعمار، لتحتل واجهة، ليس فقط الاهتمام العالمي، بل شوارع العواصم والمدن العالمية، كان لا بد من تحرك سياسي تحت مطلب (دولة)، يلتف على كل هذا، يجهضه، يفرغه من محتواه، ينفسه، وليعيد وضع الأمور، كما يأملون، على السكة التي يريدها الأمريكان والأوروبيون وحليفتهم دولة الكيان. إن شعاري (الحرية لفلسطين) و(من النهر للبحر فلسطين حرة) ليسا بالمطلق متوافقين مع مطلب (الدولة) على مقاس بايدن وبوريل، بل تلك مطالب بتحرير وطن مستَعمَر، وذاك هو جوهر التحرر الوطني الفلسطيني، والذي عبّرت عنه المقاومة مراراً بشعار (التحرير والعودة)، وما دون ذلك انتهاك للحقوق الوطنية وتصفية واستسلام.
لذلك نعتقد ان التصريحات نشطت حول الدولة. لنتمعن قليلاً بحقيقة (دولتهم). في التصريحات المتعددة لم يجر مطلقاً تناول القضايا، التي منطقياً يترتب على إنجازها (قيام دولة). لم يطرحوا إنهاء الاحتلال تماماً، تفكيك المستوطنات، تحقيق حق العودة، السيادة التامة على البر والبحر والجو والمعابر والحدود. ماذا سيتبقى من (دولتهم) دون ذلك؟ لا شيء. لن تكون تلكم الدولة في الواقع غير كيان مسخ وممسوخ، يجسّد تصفية القضية والمقاومة، يشطب تماماً حقوقنا في وطننا، يشطب تماماً حق العودة، وبالمقابل يتمكن الكيان الصهيوني من إعادة تأكيد مكانته الأمنية التي تدهورت بهزيمته في 7 أكتوبر وتؤكد قدرته على حماية نفسه، ويؤبد مستقبل الكيان ويضمنه، وخاصة أن كل حديث عن (الدولة) يلحقه تأكيد قطعي (بأمن إسرائيل). تلك هي (دولتهم) ولا شيء آخر.
أما ما يبدو أنه تأكد، وهذا ما نرجوه، للذين ما زالوا يعيشون وهم التسوية والتفاوض منذ اتفاقية اوسلو وما قبلها، فهو حقيقة، ليس فقط الموقف الحكومي الإسرائيلي، بل ومستوطنو الكيان. سارع نتنياهو لتكذيب بايدن حول موافقته على (الدولة)، يعني كما يقال (طلع بايدن بسواد الوجه)، وانخرطت عصابة الفاشيين الحاكمة بسلسلة تصريحات ضد إقامة دولة فلسطينية، وحتى مع تأكيد بايدن أنها منزوعة السلاح، ولم يتطرق في دعوته الى كل ما يجعلها دولة، فنتنياهو رفضها علانية وكذّب بايدن وتصريحه.
أما مستوطنو الكيان فاستطلاعات الرأي توضح بجلاء النزوع العالي نحو الفاشية والعنصرية المقيتة ضد شعبنا، وتلك حقيقة تاريخية في كل الصراعات التي دارت في التاريخ الحديث والمعاصر بين الشعوب الأصلانية والمستعمرين المستوطنين، فمتى ما تأكد طابع الصراع كصراع وجود، حتى ظهر مجتمع المستوطنين المستعمرين على حقيقته: فاشي دموي يسعى لإبادة السكان الأصليين. المستعمرون الإسرائيليون لا يشذون عن تلك القاعدة، ليس فقط يرفضون حقوق شعبنا الوطنية، وبضمنها الدولة بمواصفات تجسّد الحقوق الوطنية، بل يدعون ويؤيدون استمرار الإبادة، وهنا ينبغي تسجيل حقيقتين، الأولى أن الاستطلاعات وإن كانت تعطي نتنياهو 15% من أصوات الجمهور، غير أنها تعطي أكثر من 90% لدعوة استمرار الحرب على غزة، والثانية أنه حتى الحركة الداعية للإسراع في وقف إطلاق النار وتحرير أسراهم لدى المقاومة، فهي دعوة تعلن صراحة مطلبها بتجديد الحرب على غزة بعد انجاز صفقة التبادل.
لذلك فإن بقي لدى أيا كان وهم بإمكانية التسوية والتفاوض مع الكيان، انسجاماً مع دعوة بايدن أو (خارطة طريق) يعدها بوريل، أو حتى إحياء (مبادرة السلام العربية)، فعليهم أن يعيدوا حساباتهم.
معركة طوفان الأقصى وإنجازاتها، بطولة شعبنا ومقاومته وصموده وتضحياته، يستحقان ان تنتظم سكة الموقف السياسي الفلسطيني الوطني فقط على طريق التحرير والعودة، والانخراط سريعا في مبادرة قوى المقاومة الخمس التي أعلنتها قبل شهر تقريباً في بيانها في بيروت، بتشكيل قيادة وطنية وفق خيار المقاومة التي يؤطرها برنامج سياسي على قاعدة التحرير والعودة، والتخلي عن وهم التفاوض. شعبنا ومقاومته وتضحياته يستحقون أكثر بكثير من (دولة) الإمبرياليين العنصريين بايدن وبوريل.
{ كاتب ومحلل سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك