لم يسلم أي كائن حي من إنسان، وحيوان، ونبات يعيش ويتحرك على سطح غزة في فلسطين المحتلة من قنبلة الدمار الشامل التي أُلقيت على غزة على فترات متواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023. وهذه القنابل والصواريخ والقذائف التي نزلت على غزة بيد جيش الكيان الصهيوني مباشرة كانت أيضاً من الحكومات الغربية وتتحمل مسؤوليتها وانعكاسات جرائمها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي دعمت بشكلٍ غير مباشر إلقاء هذه الأسلحة المدمرة عن طريق تقديمها وتزويدها للكيان الصهيوني ساعة بعد ساعة بشكلٍ يومي مستمر، وعن طريق دعم الكيان مالياً، وإعلامياً، وسياسياً، ودبلوماسياً، بل الأدهى والأمر أن الولايات المتحدة ضحت بأبنائها للقتال جنباً إلى جنب مع جنود العدو، حيث لقي 23 منهم حتفهم في غزة منذ 7 أكتوبر، بحسب إعلان وزارة الخارجية في 24 يناير 2024.
كما أن الحجر الجماد الذي لا يتحرك ولا ينطق لم يسلم أيضاً من عدوان الكيان الصهيوني الأمريكي الغربي، فقد نطق الحجر أيضاً أمامنا صارخاً ومتألماً بعد أن تم مسح ومحو آلاف المباني والعمارات والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات وغيرها، واستئصالها وحرقها وتدميرها جذرياً من سطح أرض غزة. وآثار ومردودات تدمير «الحجر» ليس فقط من الناحية الإنسانية المباشرة على البشر الذين فقدوا منازلهم، ومكان سكنهم، وكل ما لديهم من ممتلكات بَنوها بسواعدهم وخالص مالهم، والآن يفترشون الأرض ويتلحفون السماء، ويعيشون في الخيام، أو الملاجئ ومواقع النازحين التي تفتقر إلى أدنى سبل الحياة. فالتدمير الشامل للحجر له بعد إنساني آخر يتمثل في القضاء على ذاكرة التاريخ الثقافية المتوارثة عبر الأجيال البشرية، ويتمثل في القضاء على التراث الإنساني التاريخي العميق الذي هو تراث مشترك للبشرية جمعاء في كل أنحاء العالم، سواء الذين يعيشون في غزة أو أي مكان خارجها، وسواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين أو من اليهود، حتى أن هناك اتفاقية دولية ترعى وتهتم بهذا الجانب الحيوي للإنسانية تحت مظلة «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» (اليونسكو) تحت مسمى «اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي»، حيث تهدف هذه الاتفاقية الدولية إلى الحماية والحفاظ على المواقع الأثرية ذات الاهتمام والقيمة الدولية المشتركة، ونقلها سليمة إلى الأجيال اللاحقة. فهذا التراث التاريخي الثقافي المعماري الإنساني لا يقدر بثمن، ولا يمكن استرجاعه إذا تم هدمه والقضاء عليه.
وفي الحقيقة فإن هناك بعض وسائل الإعلام الغربية المنْصفة التي تناولت هذا الجانب من الإبادة الجماعية لبيئة غزة، والجرائم التي ارتكبت في حق الحجر والتراث الإنساني التاريخي والثقافي، والفن المعماري الفريد الذي امتزج بين العصور والعهود والإمبراطوريات السابقة، وكان آخر تحقيق قد نُشر في 24 يناير 2024 في مجلة «الأمة» الأمريكية (The Nation) تحت عنوان: «ماذا يعني هدم الإسرائيليين المسجد العمري العظيم؟».
وفي هذا المقال تم التركيز وتسليط الضوء على «المسجد العمري العظيم» لما له من أهمية كبيرة من الناحية التاريخية، والثقافية، والفنية المعمارية. فهذا المسجد يقع في البلدة القديمة في وسط غزة، وهو في حد ذاته يحمل تاريخاً عريقاً في صفحاته الغابرة، وهذا المسجد كتاب تاريخي عميق ومتنوع وثري من المعلومات والخبرات والحوادث، فقد شهد حضارات وأحداث تاريخية عظيمة شملت عهودا وعصورا كثيرة متنوعة كالعهد البيزنطي، والروماني، والمملوكي، والمغولي، والإسلامي.
فهذا المسجد يُقدر عمره بأكثر من 1500 عام، وشهد تغييرات كثيرة في هويته، كما تعرض إلى زلزال في عام 1033، حيث تم بناؤه ككنيسة على موقعٍ لمعبد وثني من قبل البيزنطيين في القرن الخامس، ثم تحول إلى مسجد في القرن السابع، حيث كان أول وأكبر جامع تم تأسيسه في العصر الإسلامي، ثم تحول مرة ثانية إلى كنيسة في القرن الـ 11، وأخيراً إلى مسجد في القرن الـ 13، كما أعاد العثمانيون الأتراك بناءه وترميمه في القرن الـ 16، وفي عام 1925 تم تعديل وترميم الجامع مرة ثانية.
وأما في 19 نوفمبر 2023 فقد وقعت النكبة الكبرى على الجامع فسقط صريعاً وتبعثر إلى أشلاء من الركام، ثم جاءت الضربة القاضية التي تم مسحه بالأرض في الهجمة البربرية الثانية في 8 ديسمبر 2023 على يد صهاينة الكيان الصهيوني وبأسلحة ومعدات أمريكية غربية.
ومن جانب آخر هناك الكنيسة التاريخية الإنسانية العريقة التي لا تقل أهمية عن مسجد عمر العظيم، من حيث تاريخها الطويل، ومن حيث الحوادث والتغيرات والتحولات السياسية التي مرَّت عليها عبر العهود والعصور الغابرة حتى يومنا هذا، فيعكس تراثها وطرازها المعماري الفني المشهود لكل هذه التحولات والتغيرات السياسية. وقد نُشر مقال حول جريمة هدم هذه الكنيسة والمواقع الأثرية الإنسانية الأخرى في 3 ديسمبر 2023 في نشرة «الإذاعة الوطنية الأمريكية العامة» (National Public Radio, NPR) تحت عنوان: «أكثر من مائة موقع تراثي إنساني تم هدمه بالهجمات الإسرائيلية».
فهذه الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي تقع في حي الزيتون القديم تُعد ثالث أقدم كنيسة في العالم على الإطلاق، حيث تَعُود أصولها إلى القرن الخامس أو عام 407، وتُعرف بكنيسة القديس «برفيريوس» ( Saint Porphyrius).
ولكن كل هذا الإرث التاريخي الإنساني الفريد، والذاكرة الثقافية الأصيلة التي كُنا نراها في كل زاوية من زوايا هذه الكنيسة العريقة، لم تشفع لها من ممارسات الكيان الصهيوني الهمجية العشوائية اللامبالية ببشر أو حجر أو شجر، فذهب كل هذا الموروث البشري مع الريح في 19 أكتوبر 2023 عندما جاءت أيدي الغدر من جنود الكيان الصهيوني وبمشاركة غربية بقصف هذا المعلم التاريخي وتدميره كلياً من على وجه أرض غزة العزة.
وعلاوة على ذلك كله فهناك مقابر الأموات التي لم تسلم أيضاً من بربرية الكيان الصهيوني، حيث تم تدمير العديد من المقابر، منها مقبرة رومانية عمرها أكثر من 2000 عام، إضافة إلى متحف رفح الذي يضم مقتنيات أثرية فريدة وثمينة ومركز الأرشيف الوطني التاريخي.
فما قام به الكيان الصهيوني في أيام قليلة لم يقم به أي جيش في تاريخ البشرية جمعاء من تدميرٍ جماعي وشامل لكل من يعيش في غزة إنساناً كان أم حيواناً أم زرعاً أم حجراً وجماداً لا يتحرك.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك