في الآونة الأخيرة، سلط المعلقون والمحللون الضوء على الاختلاف الكبير في ردود فعل الدول الغربية على الكارثة الإنسانية، وجرائم الحرب، وعمليات الإبادة الجماعية التي يتعرض لها ملايين الفلسطينيين في غزة، على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، في مقابل ردود أفعالها تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث بدت ازدواجية المعايير الغربية واضحة في كلا الحالتين.
وأشار «المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان»، إلى «قصور الرغبة» لدى الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأعضاء الاتحاد الأوروبي، في النظر إلى الأدوار الذي يمارسها رموز السياسة الغربيين والقادة العسكريين والمؤسسات الحقوقية، بشأن ضرورة تعزيز المساءلة والعدالة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. وأوضحت منظمة العفو الدولية، كيف أدى ضعف التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان، من قبل هذه الدول إلى إفلاتهم من العقاب وعدم الاستقرار.
وبشكل واضح، تجلت المعايير المزدوجة، بشأن حماية حقوق الإنسان، والالتزام بالقانون الدولي، في تعامل الغرب مع حَربَيّ أوكرانيا، وغزة، حيث تعامل بطريقة الكيل بمكيالين. ففي حالة أوكرانيا، كان قادة أمريكا وبريطانيا وأوروبا في طليعة النداءات الدولية التي دعت إلى الدفاع عنها ضد العدوان الروسي، وقدموا مساعدات مالية وعسكرية هائلة لتحقيق ذلك، ودعوا إلى استعادة الأوكرانيين أراضيهم بالقوة، ومحاسبة روسيا على أفعالها، فيما حازت تطورات هذه الحرب اهتماما إعلاميا واسعا.
وعلى النقيض، حين صعدت إسرائيل، هجماتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، غابت الدول الغربية عن إدانة استخدام القوة ضد المدنيين، واستمرت في دعمها لإسرائيل، وتقديم كل أشكال الدعم لها، فضلا عن وجود تخاذل، واضح لإدانة العدوان؛ الأمر زادت معه الإدانات الدولية لأمريكا وبريطانيا وغيرهما؛ واشتدت الانتقادات الداخلية، وبدأت جماعات حقوق الإنسان في رفع دعاوى قانونية تتهمهما بالتواطؤ في الإبادة الجماعية للفلسطينيين.
ووفقًا للقانون الدولي، تُعد وحدة الأراضي، ومنع الاحتلال القسري حقوقا أساسية، لا غنى عنها، وهو ما استندت إليه الدول الغربية في إدانتها للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وعندما حاولت موسكو، ضم أربع مناطق من أوكرانيا رسميًا، نفى الرئيس الأمريكي جو بايدن شرعية ذلك، وقام مع حلفائه، بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية عليها، مع الإصرار على وجوب استعادة كييف السيطرة على جميع أراضيها قبل الحرب كشرط للسلام.
وفي المقابل، دعمت الدول الغربية الحرب الإسرائيلية على غزة، ورفضت الانضمام إلى دعوات المجتمع الدولي، بشأن الوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية. وردًا على الهجوم، صرح مجلس الأمن القومي الأمريكي، أنه يواصل دعم أمن إسرائيل، وحقها في الدفاع عن شعبها. فيما لم يصدر الرئيس الأمريكي، ولا وزير خارجيته، بيانًا بشأن هذا التصعيد. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، صرح بأنه يجب إعطاء الأولوية لحماية المدنيين، ودعا إسرائيل إلى التحلي بضبط النفس، فقد أكد أيضا أن بلاده تدعم حقها في الدفاع عن النفس. ومع أن الاتحاد الأوروبي، أدان الخسائر في أرواح المدنيين التي تسببت فيها إسرائيل، فإن رده تجاهل نهجها الدائم في العنف. وحتى مع احتلال الأخيرة لغزة عسكريًا، ورفض نتنياهو، قيام دولة فلسطينية في المستقبل، وإعلانه ضرورة الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على القطاع، رفضت هذه الدول اتخاذ أي إجراء ملموس لدعم القانون الدولي. وبالتالي، تم تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، الذي يعيش في ظل ما وصفته منظمات، مثل العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، بـنظام الفصل العنصري.
وعلى نطاق واسع، اتهمت المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان كلا من روسيا، وإسرائيل، بارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، التي أشارت إليها المحكمة الجنائية الدولية، على أنها تشمل على القتل المتعمد، والإيذاء الخطير -جسديًا وعقليا- للسكان بقصد القضاء كليا أو جزئيا على قوم أو عِرق أو أمة أو طائفة دينية ما. وفيما يتعلق بالاستهداف العسكري المتعمد للمدنيين؛ أدانت الدول الغربية، استخدام موسكو، للغارات الجوية والصواريخ ضد المدن الأوكرانية، كما زودوا كييف، بأنظمة الدفاع الجوي، والطائرات المقاتلة لاعتراض هذه الهجمات.
وعلى الرغم من ذلك، رفضت هذه الدول –نفسها- إدانة القصف الجوي الإسرائيلي المستمر على غزة، أو ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل، خاصة أن سكان القطاع، لا يملكون أي وسيلة لوقف الغارات الجوية. ويقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن هناك 65 ألف وحدة سكنية دُمرت، فيما تضررت 290.000 وحدة أخرى؛ ما أدى إلى تشريد أكثر من 1.6 مليون شخص، فضلًا عن وجود أدلة مؤكدة على أن قوات الاحتلال استهدفت عمدا المؤسسات المدنية، مثل المستشفيات، وملاجئ الأمم المتحدة. وأوضحت ألكسندرا شارب، في مجلة فورين بوليسي، كيف قصفت يوم 24 يناير، مركز تدريب تابع للأمم المتحدة، كان يؤوي مئات الفلسطينيين، بمدينة خان يونس.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، استشهد أكثر من 26000 فلسطيني -أكثرهم من النساء والأطفال- وأصيب أكثر من 64 ألفا آخرين. ومع اعتراف بلينكن، في المنتدى الاقتصادي العالمي، بما أسماه مشاهد الدمار الموجعة في القطاع، فما زال هو وحكومته يرفضان التحرك للضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها ضد المدنيين العزل. وبدلاً من ذلك، وقفت واشنطن، حائلًا أمام قرارات مجلس الأمن، الداعية إلى وقف الحرب، بل ودعمتها سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا، وعسكريا، مع قيام منظمة العفو الدولية، بنشر أدلة تثبت استخدم قنابل أمريكية الصنع في هجمات مميتة ضد المدنيين الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، أظهر الغرب أيضا تناقضات ملحوظة في كلا الحالتين، فيما يتعلق بـالتهجير القسري للشعوب على يد المعتدين. ويعد هذا الفعل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي، حيث ينص المبدأ 6، من المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة، بشأن النزوح الداخلي على أن لكل إنسان الحق في الحماية من التهجير التعسفي من منزله أو مكان إقامته المعتادة، فضلا عن نظام روما الأساسي، الذي يقنن كيف أن الترحيل، أو النقل القسري للسكان يعد جريمة ضد الإنسانية، ويعتبر النقل القسري للأطفال عملاً من أعمال الإبادة الجماعية.
وفيما يتعلق بترحيل روسيا للأوكرانيين، ليس لدى الدول الغربية أدنى شك في أن جرائم حرب قد ارتكبت. وتم الإبلاغ خلال هذه الحرب عن ترحيل ما يقرب من 3 ملايين أوكراني بشكل غير قانوني إلى أراضي تحت سيطرة روسيا، بما في ذلك ما لا يقل عن 20 ألف طفل. ولذلك، أشادت هذه الدول بقرار المحكمة الجنائية الدولية في مارس 2023، بإصدار مذكرة اعتقال بحق كل من بوتين، وماريا لفوفا بيلوفا، مفوضة حقوق الطفل لدورهما في اختطاف الأطفال الأوكرانيين ونقلهم قسرا. ووصف الرئيس الأمريكي جو بايدن، هذه الإدانة الدولية بأنها مبررة، وصرح المستشار الألماني أولاف شولتز، بأنها تُظهر ألا أحد فوق القانون. وفي يوليو2022، انتقد بلينكن، موسكو، لانتهاكها اتفاقية جنيف من خلال نقل وترحيل الأشخاص المحميين بشكل غير قانوني.
من ناحية أخرى، كانت ردود الفعل الغربية تجاه التهجير القسري المتعمد لسكان غزة مختلفة تمامًا، على الرغم من أن نادية هاردمان، من منظمة هيومن رايتس ووتش، أشارت إلى أن ما يقرب من مليوني فلسطيني –أي ما يعادل 85% من سكان المنطقة- قد أصبحوا نازحين، جراء الهجمات التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وأضافت جولييت توما، المتحدثة باسم الأونروا، أن الفلسطينيين النازحين قد تحولوا إلى العيش في العراء، ومع هذا كانت لغة رفض بلينكن، لرغبة إسرائيل في إخراج الفلسطينيين من غزة هادئة، بالمقارنة مع حماسة واشنطن، لرؤية روسيا مهمشة دوليًا؛ لترحيلها القسري للأطفال الأوكرانيين إلى أراضي تحت سيطرتها.
وفي حين أن وزير الخارجية الأمريكي -وفقًا لـجينيفر هانسلر من شبكة سي إن إن- صرح بأنه يجب السماح لسكان غزة بالعودة إلى منازلهم، بمجرد أن تسمح الظروف بذلك؛ فمن الجدير بالملاحظة، أن هذا التصريح لم يقترن بأي شروط أو ضغوط على إسرائيل للقيام بذلك.
وأشارت شارب، إلى أن أغلبية سكان غزة الذين أجبروا على الفرار إلى خان يونس، عندما غزت إسرائيل تلك المنطقة؛ قد أُجبروا مرة أخرى على الانتقال إلى مدينتي رفح، ودير البلح، وهو ما يزيد من معاناتهم القاسية جراء انتهاك القانون الدولي.
وفي حالة الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، يتبين أنه في حين أن قصف روسيا للأهداف المدنية، والترحيل الجماعي للأوكرانيين، وتقويض القانون الدولي؛ تم إدانتها بالكامل، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية؛ فإنه في حالة الحرب الإسرائيلية على غزة، صرح بلينكن، أثناء زيارته للمنطقة في شهر يناير، أن واشنطن، ستواصل تقديم أفضل التوصيات والنصائح للإسرائيليين بشأن إدارة الحرب.
وداخليًا، عارضت إدارة بايدن، أيضًا اقتراحًا يدعو الخارجية الأمريكية، إلى التحقيق في أي انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان في غزة، وفرض قيود قانونية أكثر صرامة على إسرائيل لانخراطها في ارتكاب نمط ثابت من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المعترف بها دوليا، حيث تم رفض هذا الاقتراح في بيان للبيت الأبيض، بحجة أن الوقت ليس مناسبا، لفرض مثل هذه الرقابة والمساءلة، وهو البيان الذي يعترف ضمنيا بأن إسرائيل قد أوقعت بالفعل خسائر كبرى في صفوف المدنيين، وهو ما يشكل انتهاكًا للقانون الدولي.
واستمرارًا للدعوات المطالبة بمساءلة إسرائيل جراء انتهاكاتها للقانون الدولي، لم يكن مفاجئًا أن ترفض إدارة بايدن، قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا، ضدها أمام محكمة العدل الدولية، باعتبارها -حسب زعمها- لا أساس لها من الصحة، وهو الموقف ذاته الذي اتخذته المملكة المتحدة وألمانيا، رغم أنه لا يتوافق تمامًا مع الرأي العالمي، ورأي وكالات حقوق الإنسان التي لا زالت توثق جرائم الحرب الإسرائيلية.
وأوضح جيريمي سكاهيل، في موقع ذا إنترسبت، أنه من غير المستغرب أن تكون هناك أدنى إدانة من واشنطن، ولا من حلفاء إسرائيل الآخرين إزاء رد نتنياهو، على الإجراءات القانونية في لاهاي: بأن الحرب ستستمر حتى تحقيق النصر الكامل، بغض النظر عن التكلفة البشرية والمادية للمدنيين الفلسطينيين.
وبمناسبة إحياء ذكرى الهولوكوست في يناير2021، تحدث بايدن، عن أن منع عمليات الإبادة الجماعية وجرائم الحرب سيظل واجبًا أخلاقيًا عليه، ومسألة ذات أهمية وطنية وعالمية لواشنطن. وبعد مرور ثلاث سنوات، تواجه إدارته، الآن دعوى قضائية فيدرالية قدمها مركز الحقوق الدستورية، تتهم بايدن وبلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن، ليس فقط بـالفشل في منع الإبادة الجماعية، ولكن أيضًا بـالتواطؤ مع الحملة العسكرية الإسرائيلية، لإخراج الفلسطينيين بشكل دائم من غزة.
على العموم، لا يمكن إنكار ازدواجية المعايير الغربية في ردود أفعالها تجاه حرب روسيا في أوكرانيا، مقابل ما تقوم به إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث برزت هذه الازدواجية بشكل صارخ عند محاسبة الأولى جراء انتهاكاتها، فيما تم تجاهل الفظائع، والخروقات والانتهاكات، وجرائم الحرب، التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة ليل نهار، الأمر الذي حطم بلا شك ما تبقى من مصداقية دولية لحكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا وغيرها من الدول الأخرى، فيما يتعلق بقضايا حماية حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وحق تقرير المصير.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك