اختلفت الآراء حول قرار المحكمة الدولية بخصوص الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا بين من رأى فيه انتصاراً كبيراً وبين من اعتبر أنه لم يرتق إلى مستوى المطالبة بوقف فوري للعدوان، بل إن دولة مثل أوغندا فوجئت بقرار القاضية الأوغندية التي وقفت ضد أي قرار يدين إسرائيل، فيما في الحقيقة ثمة افتراض رومانسي ربما عند الفريقين أن العالم عادل إلى حد كبير ويمكن لمؤسساته أن تتخذ أي قرار وفق القانون والأنظمة والأخلاق.
العالم ليس عادلاً إلى هذا الحد ولا يمكن افتراض أن هيمنة واشنطن قد انقرضت أو أنها منسحبة من أي مكان فيه، كما لا يمكن افتراض أن ثمة مؤسسة دولية تسير وفق التفويض المناط بها في قانون إنشائها.
دائماً ما استعيد كيف قامت المنظمات الدولية بالانسحاب من مدينة غزة وشمالها فور طلب الجيش الإسرائيلي من السكان التوجه إلى الجنوب. قبل أن يقوم السكان المهددون بالقتل وبتدمير البيوت فوق رؤوسهم حتى بالتفكير في الأمر قامت المنظمات الدولية خاصة منظمات الأمم المتحدة المختلفة بلا استثناء ومنظمة الصليب الأحمر بإخلاء مكاتبها في مدينة غزة وإجلاء موظفيها الأجانب والعرب مع عائلاتهم.
رأيت هذا بأم عيني في صبيحة ذلك اليوم حين كنت أبيت في بيت الصحافة في شارع الشهداء حيث مقر الصليب الأحمر. فالمنظمة التي وجدت من اجل حماية المدنيين وقت النزاعات تركت المدنيين يواجهون مصيرهم وحدهم وهي تسمع وترى تهديد الجيش بإبادة المدينة على رؤوس ساكنيها.
الشيء نفسه ينسحب على الأمم المتحدة ومنظماتها التي تركت غزة تواجه مصيرها واكتفت بالمطالبة بتخفيف القتل وبإدخال المساعدات، بل وصل الأمر إلى الحد الذي يصبح فيه قتل مائتي فلسطيني أمراً معقولاً بعد أن كان متوسط القتل في اليوم يربو على خمسمائة. في ذلك الوقت، قلت لبلال جاد الله الذي ستحصده الحرب بعد ذلك: إن العالم لم يكن يوماً عادلاً حتى ننتظر منه المزيد من العدل. ربما أقصى ما نتوقعه منه هو ظلم أقل وليس عدلاً أكثر.
هل يختلف الأمر حين يتعلق بالمحاكم الدولية. ثمة من يعتقد أن النظام الدولي وجد من أجل تثبيت هيمنة الدول الغربية على مقاليد الحكم في الكوكب، وبدلاً من الاستعمار هناك منظمات دولية تنفذ سياسات الدول المهيمنة باسم القانون والأخلاق والاتفاقيات. وهذا ربما يفسر رفض الدول الكبرى أي تعديلات على توزيع القوة داخل مجلس الأمن والجمعية العامة أو ما يعرف بإصلاح المنظمة الدولية. فأوروبا مثلاً التي أجرت عشرات التعديلات على طريقة التصويت داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي منذ «الفعل الأوروبي الموحد» عام 1986 وصولا إلى اتفاقيات نيس وماستريخت وغيرها والتي ضمنت أن يكون التصويت وفق تعداد السكان والقوة الاقتصادية ترفض إجراء هذه التعديلات في المنظمات الدولية لأنها تعني خسارة الهيمنة الغربية.
عموماً، ما جرى في المحكمة الدولية يحتمل فكرة الفوز ويحتمل فكرة عدم الإنجاز حتى لا نقول الخسارة، ولكن كما يمكن لرجل عجوز في أزقة مخيم جباليا أن يخبرنا «وماذا لو طالبت المحكمة بوقف الحرب؟ هل ستنصاع إسرائيل لذلك!» والسؤال الاستنكاري كما جرت العادة تحمل صيغته في متنها الإجابة بالنفي.
فمن جهة فإن الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا أعادت تسليط الضوء على جرائم الاحتلال وجعلت العالم مرة بعد أخرى ينتبه إلى وجود هذه الجرائم. وستظل مرافعات فريق الادعاء الجنوب إفريقي علامة فاصلة في صياغة الحقوق الفلسطينية وفي وضعها في سياق أشمل.
ما زالت أتذكر تلك المحامية التي قارنت بين طرد جدها «الخياط» من بيته بعد أن تم إعلان منطقة سكناه منطقة مخصصة للبيض. من المهم بالنسبة إلينا دائماً ألا يظل هذا الصراع مجرد صراع بين جارين كما يطيب للقوى الكبرى تصويره. لسنا جيرانا. جاؤوا غرباء وأخذوا أرضنا وبعد ذلك نشب الصراع الذي أساسه نضالنا من أجل استعادة حقوقنا وعدوانهم المستمر علينا من أجل سلب المزيد من تلك الحقوق.
ببساطة هذه هي الحكاية. وعليه فإن تذكير العالم بالتاريخ الأسود للاستعمار ولسرقة بلاد الآخرين واجبة، خاصة تجربة جنوب إفريقيا لجملة أسباب. أولها وبعد الإقرار بهذا القرب والتشابه حقيقة أن المجرم في الحالتين جاء من رحم التجربة الغربية والنهضة الأوروبية وحداثتها. بمعنى فكرة الاستعمار وصناعة الصهيونية، كلاهما نتيجة من نتائج الحداثة الأوروبية.
غير أن الحديث العلني في أعلى هيئة عدالة دولية عن فكرة الإبادة الجماعية والتحذير من وقوعها هو اتهام بطريقة أو بأخرى لدولة الاحتلال بذلك. طبعاً يبدو توقع أن يتم تحريك جيوش المجتمع الدولي من أجل وقف العدوان علينا رومانسياً أيضاً لأن هذا يتنافى مع طبيعة تكوين النظام الدولي ومؤسساته. إننا بحاجة إلى تغيرات جوهرية ولو كانت طفيفة في وعي المجتمع الدولي. وما حدث من هذا الجانب يمكن اعتباره إنجازا لا يمكن التقليل منه.
أظن أننا بحاجة إلى تطوير سياسات لتصعيد النضال السياسي والقانوني ضد دولة الاحتلال حتى نصل للحظة التي يتم فيها تصنيفها أنها دولة فصل عنصري.
صحيح أن العالم ليس عادلاً إلى هذا الحد لكن يمكن مع الوقت زحزحة بعض معايير العدل فيه وإحداث تحولات في كفة الظلم حتى يرجح العدل قليلاً. هذا يتطلب منا أن نكون واضحين في مساعي نضالنا ومقاصد مساعينا السياسية دون التنازل عن حقوقنا.
العالم في نهاية المطاف لا يمكن أن يستمر في إغلاق أذنيه. في لحظة سيضطر إلى سماع الصخب الذي يجب أن يحدثه الحراك الفلسطيني مدعوماً بحراك أحرار العالم ومطالبهم.
{ كاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك