خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، وقفت المملكة المتحدة إلى جانب الولايات المتحدة ودعمت قوات الاحتلال؛ اقتصاديا، وسياسيا، وعسكريا، ودبلوماسيا، بخلاف أغلبية المجتمع الدولي التي دعت إلى هدنة إنسانية، ووقف كامل لإطلاق النار. وأشار الكاتب البريطاني جوناثان هارفي، إلى كيف أدى تَبنّيها لمواقف واشنطن، إلى عزلتها السياسية، وتحطيم سمعتها الإقليمية في الشرق الأوسط، وتقويض مكانتها كمدافعة عن حقوق الإنسان، وداعمة للقانون الدولي.
وتكمن الأولويات الحقيقية للسياسة الخارجية البريطانية بشأن حرب غزة في كيفية مواجهة هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر. وعلى الرغم من تردد رئيس الوزراء ريشي سوناك، ووزير الخارجية ديفيد كاميرون، ووزير الدفاع جرانت شابس، في اتخاذ قرار سياسي تجاه وقف إطلاق النار في القطاع؛ فإنهم لم يترددوا في اتخاذ قرار عسكري ضد الحوثيين، بعد تهديدهم للملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر.
وتأكيدًا لهذا التحليل، صرح شابس، بأن بلاده باتت على شفا حرب؛ في ضوء أن الصراع المسلح مع كل من روسيا وإيران والصين، يُنظر إليه على أنه أمر لا مفر منه. وفي منتصف يناير2024، ألقى خطابا ادعى فيه أن عام 2024، يُعد نقطة تحول، وأن على المملكة المتحدة أن تقرر مستقبل سياستها الدفاعية، مستشهدًا برأي الحكومة حول إمكانية نمو الصراعات العالمية، مؤكدا أن النظام العالمي أصبح أكثر خطورة، بسبب تزايد الدول العدائية للغرب. وفي هذا الصدد، ركز على الشرق الأوسط، وأعداء إسرائيل، ووصف إيران والحوثيين، بأنهم من بين أبرز خصوم بريطانيا على مستوى العالم.
وبناء عليه، رأى المحللون أن تلك التصريحات توجه سياسة بريطانيا الخارجية العدوانية نحو الأمام، ما من شأنه التقليل من تأثير الدبلوماسية، والمفاوضات لتهدئة الأزمات الإقليمية. وشَبَّه أندرو دورمان، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، محاولة لندن الحالية لحماية مصالحها من المنافسين بخطاب محور الشر، الذي ألقاه جورج دبليو بوش، عام 2002.
ونتيجة لهذا النهج، تعرضت سياسة بريطانيا الخارجية لانتقادات شديدة من قبل المحللين والمراقبين. ورأى جون ريس، من جامعة جولد سميث، أن لغة وزير الدفاع تشير إلى أوهام استعمارية كبرى، وانتقد جنون العظمة، لدى لندن، إزاء فكرة أن الحكومات المعادية غير المستقرة، يمكن أن تتآمر ضدها.
وفي الشرق الأوسط تعرضت سياستها الخارجية أيضًا للانتقادات، حيث يتناقض انضمامها مع الولايات المتحدة، لشن غارات جوية ضد الحوثيين، مع إصرار شابس، على قدرة حكومته الاضطلاع بمسؤولياتها بمفردها عندما يتطلب الأمر. وأشارت الصحفية البريطانية إيفون ريدلي، إلى أن المملكة المتحدة، ارتكبت خطئًا فادحًا في أفغانستان، وانخرطت في حرب مخزية وغير قانونية في العراق، مؤكدة أنه كان على واشنطن، ولندن، أن يدركا أن هذا الاتجاه الخطر للتدخل العسكري في الشرق الأوسط، سيكون له تداعيات طويلة المدى.
ومتفقا مع هذا التحليل، أشار ريس، إلى عدم تضمين تصريحات شابس، أي اعتراف، بحقيقة أن سياسة لندن الخارجية عانت من سلسلة من الانتكاسات السياسية والعسكرية في المنطقة، بالآونة الأخيرة، والتي ظهرت جليًا في فشلها الذريع في أفغانستان، والكارثة الأكبر المتمثلة في حرب العراق، والحروب الأهلية في ليبيا وسوريا، التي أسفرت عن منطقة حرب لا يمكن حكمها والسيطرة عليها.
علاوة على ذلك، تزايدت الانتقادات لسياستها الخارجية؛ بسبب فشل العمل العسكري ضد الحوثيين في ردع تهديداتهم للشحن التجاري الدولي، وعوضًا عن ذلك، تزايدت التوترات الإقليمية مع إيران. وادعى كاميرون، أن الضربات الجوية تبعث بأوضح رسالة ممكنة. ومع ذلك، أوضح دورمان، أن طموح بريطانيا يفوق قدرتها العسكرية، حيث يلعب سلاح الجو الملكي في النهاية دورًا رمزيًا إلى حد كبير، مقارنة بالأمريكيين.
واستمرار، قيّم مايكل هورتون، من مؤسسة جيمس تاون، هذه الضربات الجوية بأنها لن تحد بشكل جدي من قدرة الحوثيين على ضرب أهداف في البحر الأحمر، وأن إضعاف قدرتهم يحتاج إلى حملة جوية مطولة وواسعة النطاق، من قبل الدول الغربية. وبينما نفى هذا الاحتمال، باعتباره لا يمكن ترويجه سياسيا واقتصاديا بالنسبة للغرب، فإنه يجب الإشارة إلى استمرار هجمات واشنطن، ولندن، ضد الحوثيين في اليمن. وفي الوقت الذي يصر فيه سوناك، على أن حكومته لا تسعى إلى مواجهة، مع الحوثيين أو إيران، تتوقع ريدلي، فترة غير محددة من الضربات الجوية، التي أقرت بأنها لن تفعل الكثير لتحقيق الاستقرار في طرق الشحن.
ومع إشارة النواب في مجلس العموم البريطاني، إلى مخاوفهم بشأن عدم وجود استراتيجية للتعامل مع أزمة البحر الأحمر؛ أشارت صحيفة الجارديان، إلى وجود سابقة برلمانية للأعضاء للتصويت بالموافقة على العمل العسكري في الخارج، كما كان الحال في العراق وسوريا؛ ومع ذلك فإن حكومة سوناك، تجاهلت حتى الآن مثل هذه الدعوات. وأعربت ريدلي، عن أسفها لكيفية تجاوز سوناك، وكاميرون، أي نقاش سياسي، محلي لمواصلة حملة القصف في اليمن، والتي تدعم مصالح إسرائيل قبل مصالح الاستقرار الإقليمي.
ويشير دعم بريطانيا المستمر لإسرائيل -حتى بعد اعتراف محكمة العدل الدولية، بارتكابها جرائم حرب، وإبادة جماعية، وحثها على منع تلك الممارسات في غزة- إلى أنها تواجه عزلة دبلوماسية عن بقية العالم. وفي تقويض خطير لما وصفه هارفي، بأنه المصلحة التاريخية الفريدة لبريطانيا في الحفاظ على العلاقات مع العالم العربي؛ سجلت ريدلي، أنه من خلال ربط نفسها بمصالح إسرائيل، ورفض الاتهامات الموجهة لها بشأن انتهاكها للقانون الدولي؛ فقد أكد صناع السياسة البريطانيون افتقار بلادهم إلى القيادة العالمية والحنكة السياسية، وهو ما يشكل ضررا بالغا على سمعتها الدولية.
وكما هو الحال مع الولايات المتحدة، حاولت بريطانيا، تحويل اللوم عن الحرب في غزة والدمار الذي خلفته، بعيدا عن إسرائيل. وفي حين تجاهلت حكومة سوناك، النداءات العالمية الموجهة إليها لدعم وقف إطلاق النار الإنساني الفوري في القطاع من قبل المنظمات الحقوقية الدولية؛ فقد أصر شابس، على أن الأمر متروك لإيران ووكلائها للتوقف من أجل السلام الإقليمي.
بالإضافة إلى ذلك، يتجلى ضعف دور بريطانيا في الشرق الأوسط في عدم قدرتها على محاسبة إسرائيل على ما ارتكبته في غزة من مجازر؛ وفي ظل رفض نتنياهو، قيام دولة فلسطينية مستقبلية في نهاية هذه الحرب. ولم يكن بوسع شابس، إلا أن يعلق قائلاً: إنه يشعر بخيبة أمل من مواقف القادة الإسرائيليين. وليس من المستغرب، ألا تُصدر أية ضغوط، أو ممارسة نفوذ عليها لتغيير هذا الوضع. واستنادًا إلى تراجع دورها، وخضوعها لمطالب إسرائيل، أصرت على أن مستقبل القطاع، يجب أن يكون تحت قيادة مقبولة لدى إسرائيل، وانضمت إلى الأمريكيين في تجاهل حقوق السيادة، وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، في تأييدهم لتعيين حكومة مواتية، بدلاً من السماح بالديمقراطية -التي يزعمونها- أن تؤدي إلى ظهور مرشحين يعارضون الاحتلال الإسرائيلي.
وبشكل عام، تتضح ازدواجية المعايير البريطانية في الطريقة التي نشطت بها لندن، في الدعوة إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المحتجزين داخل غزة، وتسييرها رحلات استطلاعية فوق القطاع لدعم جهود إنقاذهم، وفي مقابل ذلك، لم تبذل أي جهد لإطلاق سراح ما يزيد على 7000 أسير فلسطيني تحتجزهم إسرائيل دون محاكمة، أو إدانة، ما يمثل انتهاكا واضحا للقانون الدولي، وحقوق الإنسان.
ونتيجة لذلك، كانت السياسة الخارجية البريطانية أثناء الحرب في غزة؛ سببًا في ترسيخ تصور مفاده أنها تتبع القيادة الأمريكية فحسب، ولا تستطيع ممارسة استقلاليتها. وبينما انتقدت ريدلي، بشدة سياسة بلينكن، كوزير للخارجية، أعربت أيضًا عن يأسها من رؤية وزير خارجية المملكة المتحدة، يحاول دون جدوى استخدام الدبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط في كسب الدعم لإسرائيل. ومع توسع العمل العسكري الغربي في اليمن، رأت أن هذين السياسيين، يدفعان بلديهما إلى صراع آخر لا ينتهي؛ بسبب دعمهما المطلق لإسرائيل.
على العموم، على الرغم من تصريحات سوناك، وكاميرون، وشابس، التي اعترفت بالمعاناة الإنسانية للمدنيين داخل غزة؛ فإن مصالح السياسة الخارجية لبلادهم في هذه الحرب، تكمن بعيدًا عن ملامح القيادة الأخلاقية، وحماية حقوق الإنسان، والتمسك بالقانون الدولي. وعليه، خلص ريس، إلى أنه في حين يتخيل شابس، أن بلاده تتجول حول العالم مثل عملاق، فإنها في الواقع باتت قوة متراجعة مقيدة بالولايات المتحدة. وعلى الرغم من تأكيد هورتون، أن الحل السياسي الذي تحدده القوى الإقليمية هو القابل للتطبيق للمشاكل الراهنة في البحر الأحمر؛ إلا أن بريطانيا اختارت أن تتبع القيادة الأمريكية في إجراء تدخل عسكري في اليمن، لدعم أهداف الحرب الإسرائيلية، وبالتالي المخاطرة بتصعيد إقليمي.
ومع تأكيد ديفيد هامبلينج، في مجلة فوربس، أن الاستراتيجية الحالية لبريطانيا في الشرق الأوسط يمكن مرة أخرى أن تؤدي إلى صراع ودمار في المنطقة، ومزيد من التدهور في سمعتها الدبلوماسية العالمية؛ فقد اتفق مع استنتاج ريدلي، بأنها تتبنى بالفعل سياسة خارجية شرق أوسطية تفتقد للحكمة، وتسير خلف الولايات المتحدة فحسب في دعمها غير المشروط لإسرائيل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك