انعقد في الفترة ما بين 15 و20 يناير، المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي ضم ما يقرب من 60 رئيس دولة، و300 شخصية عامة، و1600 من قادة الأعمال، بالإضافة إلى العديد من الممثلين عن مئات المنظمات والمعاهد والمراكز الأكاديمية، وكان من بين أبرز المتحدثين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ووزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، ورئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ.
وكما أوضح جون ديجيويا، من جامعة جورجتاون، فإن المنتدى الذي يستضيفه منتجع دافوس، بسويسرا منذ عام 1971، هو تجمع سنوي للقادة السياسيين والاقتصاديين الدوليين؛ للنظر في القضايا العالمية الكبرى، وتبادل الأفكار والحلول لمواجهتها.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن اختيار شعار إعادة بناء الثقة، للمنتدى نسخة 2024، يعد مناسبا، وخاصة مع حضور المسؤولين وقادة الأعمال العالميين، في وقت يتفاقم فيه الصراع في الشرق الأوسط، واستمرار العنف في أوروبا الشرقية، وتزايد المخاوف بشأن الآثار الكارثية المحتملة للذكاء الاصطناعي، وتصاعد احتمال عودة دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض.
وبالنظر إلى هذا الشعار تحديدا، اعتبر جيمي كيتن، من وكالة اسوشيتد برس، أنه ما زال هناك طريق طويل لقطعه، لكي يكون هناك توافق في الرؤى بين المراقبين السياسيين، والنخب السياسية والاقتصادية؛ بسبب انفصال هذه النخب عن الشؤون الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة. وأشار مايكل هيرش، في مجلة فورين بوليسي، إلى أن المنتدى يُظهر مجموعة من المليارديرات يقومون بحل مشاكل العالم في حين أنهم في الحقيقة هم الجناة الذين يتسببون في إدامة تلك المشاكل.
وعلى الرغم من إشارة فريدريك كيمبي، من المجلس الأطلسي، إلى مدى انتشار الإحساس بالكآبة الجيوسياسية في المنتدى الاقتصادي العالمي؛ فقد ذكرت شركة ماكينزي آند كومباني، أن الحضور أجمعوا على وجود فرص كثيرة، بغض النظر عن التحديات الموجودة.
من جانبها، أشارت ياسمين سرحان، في مجلة تايمز، إلى كيف اضطرت الأطراف المشاركة في الصراعات في غزة وأوكرانيا، إلى جذب انتباه العالم، للمساعدة في معالجة قضاياها من خلال تسليط الضوء عليها وعلى سلسلة من العوامل الاقتصادية والسياسية الأخرى. ومع إشارة كيمبي، إلى أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تلقى حفاوة بالغة، عندما ألقى كلمته؛ أشار لاري إليوت، وجون كولينجريدج، في صحيفة الجارديان، إلى كيف لم تتم دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لحضور المؤتمر، مشيرين إلى أن بوتين، بعد ما يقرب من عامين من عمليته العسكرية في أوكرانيا، لا يزال الشرير المفضل لدى الجميع.
وفي حين أشار شون بيل، من شبكة سكاي نيوز، إلى تراجع الدعم الغربي لأوكرانيا؛ فقد أوضح كيمبي، وجود تحول إيجابي، في هذه القضية خلال المنتدى، حيث سعت الولايات المتحدة، وأوروبا، إلى طمأنة الأوكرانيين من خلال تقديم تمويل لهم يزيد على 100 مليار دولار، واستمرار استبعاد موسكو، من الشؤون الاقتصادية العالمية، فضلا عن وجود دعم سياسي غربي لأخذ 300 مليار دولار من الأصول الروسية المجمدة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وإعطائها لكييف.
من ناحية أخرى، أشار كيمبي، إلى أن احتمال عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، مثّل حالة عدم يقين جيوسياسية أخرى، هو الأمر الذي رأه يؤثر على رغبة واشنطن، وقدرتها على حل الكثير من القضايا العالمية. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز، أن إجماع دافوس بشأن احتمالية فوز ترامب في انتخابات نوفمبر، هيمن على عدد كبير من المحادثات. وسجل كيمبي، أن هناك إجماعًا خلال المنتدى على أن تلك اللحظة التاريخية، ستكون حدثا سيئًا. وبالتالي، شكك إليوت وكولينجريدج، في أنه سيُقابل بترحيب من جانب الزعماء الغربيين؛ نظرا لأن أجندة الجمهوريين المتمثلة في إنهاء الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة، ووضع الولايات المتحدة أولا، والتراجع عن العولمة كلها مسائل تتعارض مع عقيدة دافوس.
وبالإشارة إلى التصور السائد في دافوس، إلى أن ترامب هو بالفعل الرئيس القادم، رأى ألكس سوروس، من كلية بارد، أن هذا التوقع -في ظل المعهود عن المنتدى- عادة ما يكون خاطئا. ودعما لهذا الرأي، أشارت صحيفة نيويورك تايمز، إلى كيف توقع المسؤولون فيه سابقا فوز هيلاري كلينتون، على ترامب عام 2016، ولم يحدث، فضلا عن أن الرأي السائد عام 2020، كان هو إعادة انتخاب ترامب وفي النهاية نجح جو بايدن.
علاوة على ذلك، حظي استخدام الذكاء الاصطناعي باهتمام كبير خلال المناقشات. وأشاد الحضور بإمكاناته في تحسين كفاءة العديد من العمليات التقنية، لكنهم أقروا أيضًا بمخاطر ضعف تنظيم استخدامه، والمنافسة لإنتاج التكنولوجيات الأكثر تقدمًا. ومع ترحيب سام ألتمان، من شركة اوين ايه آي، بالإبقاء على مستوى عالٍ، من التدقيق في تطورات هذه التكنولوجيا؛ فقد أعرب أيضًا عن قلقه بشأن الكيفية التي يجب بها إدارة الذكاء الاصطناعي بنجاح لتقديم قيمة هائلة مع تلبية متطلبات السلامة. وحذر ساتيا ناديلا، من شركة مايكروسوفت، من أن أكبر درس تعلمناه حتى الآن في هذا المجال، هو أنه علينا أن نتحمل العواقب غير المقصودة لأي تكنولوجيا جديدة إلى جانب الفوائد، مؤكدا استنتاجات ألتمان بشأن عدم انتظار ظهور العواقب غير المقصودة ثم معالجتها.
ونظراً إلى مركزية الحرب الإسرائيلية ضد غزة والضفة الغربية، بالنسبة للجغرافيا السياسية الإقليمية والدولية، أشار أندرو باراسيليتي، من مؤسسة راند، إلى أن كل الطرق تؤدي إلى الشرق الأوسط، خلال مناقشات، وتعليقات دافوس. وفي حين كرر العديد من القادة الدوليين، مثل أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، دعواتهم إلى وقف إطلاق نار إنساني فوري في غزة؛ فقد أشارت سرحان، إلى تركيز كل من أنتوني بلينكن، وجيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، بدلاً من ذلك، على أن إيجاد نظام إقليمي مستقبلي يتم فيه دمج إسرائيل دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا مع دول المنطقة؛ هو السبيل نحو إعلان الدولة الفلسطينية.
وحتى مع استمرار القصف الإسرائيلي على غزة، واستشهاد أكثر من 26000 فلسطيني -أكثرهم من النساء والأطفال- والتهديدات المتزايدة بأن الحرب ستتصاعد في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ زعم بلينكن، في حواره مع توماس فريدمان، بصحيفة نيويورك تايمز، أن الدول العربية مستعدة لإقامة علاقة مع إسرائيل تتسم بنوع من التكامل والاندماج، وأن الأخيرة لن تكتفي بهذا الشعور فحسب، بل يمكنها أن تشعر بحالة من الأمان. وتشير كل تلك المزاعم إلى أن إدارة بايدن، لا تزال تحاول كسب التأييد الدولي لإسرائيل على الرغم من عمليات الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، والمجازر التي ارتكبتها، وترحيلهم قسرًا عن أراضيهم، وهي الأمور التي تعد انتهاكا واضحا للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من تأكيد باراسيليتي، أنه كان هناك حديث في دافوس عن صفقة محتملة حول نهاية الحرب في غزة، بما في ذلك الطريق إلى إقامة دولة فلسطينية؛ فإنه لا تزال هناك مخاوف حقيقية، لتحقيق ذلك، وأن الأيام القادمة، سيخيم عليها حالة من استمرار العنف والشعور باليأس. ومع تأكيد كيمبي، أن التطورات الراهنة بالشرق الأوسط، تفتقر إلى أي بديل أو حل واضح؛ فقد رأى أن إسرائيل لن تكون آمنة على الإطلاق دون وجود حل إقليمي، وأن الاتفاق الأمني، وتوسيع علاقاتها مع الدول العربية، لن يكون ممكنا دون مسار محدد نحو إقامة دولة فلسطينية.
ومع إشارة سرحان، إلى انتقاد المراقبين في المنتدى عدم التركيز على تناول الحرب في غزة، ومعالجة الأزمة الإنسانية التي تكشفت في أعقابها، حيث كان واضحًا أن المسئولين الأمريكيين لم يدفعوا باتجاه أي اتفاق للسلام على الرغم من حضور الممثلين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ فقد أعربت أنياس كالامار، من منظمة العفو الدولية، عن أسفها إذا كان مثل هذا المنتدى العالمي، لا يمكن أن يكون أكثر شجاعة في مواجهة الحرب الراهنة، مشيرة إلى أن هذا أكبر دليل على أن واشنطن، قد فقدت مصداقيتها.
وفي واقع الأمر، ألقى إخفاق المنتدى، في إحراز تقدم بشأن السلام في الشرق الأوسط، بشكوك أوسع حول أهميته، وكونه وسيلة لحل المشاكل العالمية فعليًا. ورغم أن إليوت، وكولينجريدج، أشارا إلى أنه اجتذب قائمة طويلة من زعماء العالم من كافة الانتماءات والقناعات السياسية؛ إلا أنهما أكدا أنه ليس أكثر من قمة دورية لزعماء السياسة والاقتصاد العالميين، وأن الكثير من رجال الأعمال يتشككون الآن في كونه حدثا ضخما لكسب المال. وللتدليل على ذلك، أشارا إلى عدم حضور رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، على الرغم من أن حضوره كان سيتيح له الاحتكاك مع رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، فضلاً تواجده مع النخبة العالمية.
على العموم، بما أن دافوس، يعكس بشكل متزايد آراء مجموعة محددة من الحكومات الغربية وقادة الأعمال والتكنولوجيا، فإن فرصة إعادة بناء الثقة على المستوى الدولي، وفق الطموحات المعلنة للمنتدى، تتضاءل إلى حد كبير. ورغم استمرار الحروب في غزة وأوكرانيا، واحتمالات عودة ترامب، إلى البيت الأبيض، وتحذير قادة ورواد التكنولوجيا من مخاطر الذكاء الاصطناعي؛ لا يزال المحللون يشيرون إلى جو عام من عدم التفاؤل الناجم عن هذا المنتدى.
ومع ذلك، خلص كيمبي، إلى أنه لكي يكون هناك تفاؤل، فإنه يجب على القوى الكبرى إدراك العواقب طويلة المدى للتقاعس عن العمل نحو السلام، وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن عدم السعي لضمان حقوق الفلسطينيين، وإقامة دولتهم، سيكون المسار الأكثر خطورة على الإطلاق، الذي يتخذه الغرب. وفي ضوء هذا التقييم، فإن تصريحات بلينكن، في المنتدى، تؤكد مرة أخرى افتقار واشنطن إلى القيادة، وإدارة الأزمات لمعالجة الصراعات المتصاعدة في المنطقة، والدفاع عن حقوق الإنسان، والمدنيين الفلسطينيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك